ثقافة وحوار

الى كُلِّ رَجُلِ أَمْنٍ ، أُقَدِّمُ هذا الحُبَّ المُسْتَعاد..!!

{أَعْتَزُّ نَرْجَسَةً أَنِّي لا أزالُ وَلداً (إِبْنَ دَرَكِيٍّ) ، أَنْفُخُ صَدرَي مُباهاةً ، كُلَّما لَمَحْتُ درَكِيّاً في دَوْرِيَّةٍ أَوْ مُتأَهِّباً على إشارة سَيْر …فأرى فِيهِ طَيْفَ والِدَي ، هامَةً وقامَةً ( وإِبْنَ دَوْلة )..وأعيشُ الكِبَرَ فَخْراً و زَهْواً ..أنَّني إِبْنُ دَرَكِي..! }

الى كُلِّ رَجُلِ أَمْنٍ ، أُقَدِّمُ هذا الحُبَّ المُسْتَعاد..!!
~~~~~~~~~>>>>>>~~~~~~~
((قبّعـة الجندرمة))..!
~~~~~~~~~~~~~~~
كان أبي،{ مخايل أَفَنْدي} ،حَضَنَهُ الله، دركياً وارِفَ الجبينِ نقّيَ الكَفِّ، عَشيرَ البَسمَةِ، مَشاعيَ القلبِ، عنيداً في المَناقبياتِ، حَريصاً على هَندَسةِ هِندامِه وتَخَيُّرِ أَلفَاظِهِ و وَقْعِ كلامِهِ بينَ الناس… فهو “ابنُ حُكومة”، وصورةُ الدولةِ بينَ الناس . ورأسُ هِنْدامِ الدَرَكِيِّ، “كاسكيت”، مَشغولةٌ ، بما يليقُ برجل ِالأمنِ وضابطِ السلوكيَّاتِ وحارس الكرامة .
و (الكاسكيت)، هي قُبُّعَةُ الجَندُرمَة، يَعتَمِرُها الأفنديُ هالةَ هَيْبَةٍ ، فَتزيدُه سُلطَةً وإحتراماً ومعنويات، وتزيّنُ طلّتَهُ على الناس …ومن جمالياتِ تلك القُبَّعةِ الكاكيَّةِ، انها قاعدةٌ لأرزةٍ فضيّةٍ مُضَفّرةٍ بأغصانِ الغارِ المَجْدِيَّة..!
وأَجمَلُ الأَجْمَلِ فيها ، أنْ تَغمُر َ رَأسَ أبي بلُطفٍ و تُكَلِّلَهُ بِوَهْرَةِ الدَرَك.
أبي، الذي أُواظِبُ على إِستحضَارِ قامَتِهِ ودِفْءِ حَنَانِه كُلَّما عَطِشتُ الى حِمايَكٍ و نُصحٍ ،إذا بِصورتِه أوَّلُ ما تَنفَتِحُ عليهِ عيَنايَ، وآخِرُ ما تَنغَلِقَان عليهِ قبلَ إطْبَاقةِ النومِ وإِغمَاضَةِ الصلاةِ و نَوْمَةِ الرَجاء… فأنا ما إستَحضَرته مرّة لرَجْوةٍ أَو ( مَهَمَّةٍ ) إلاّ وكان الأفندِيُّ متأهّباً (لتَنفيذِ أمرِ )ولَدِهِ البكرِ، الذي أَورَثَه وَصيّةً قانُونُها: المحبّةُ والبَقَاءُ في دائِرةِ الخَير…!
حَفظُتُ الوصيَّةَ فِي عًُمْقِيَّاتِ قلبي ،وعَلَّقْتُ الوَفاءَ في عُنُقي قِلادَة.

شَغَلَني بوالدي، وانا أتدرَّبُ السيْرَ في معارجِ الحياة، وأَنفَطِمُ عَمّا يُبهِجُ الولدَ، العَلاقةُ التي كانتُ بينه وبين قبّعته، والذي، بعد ان تَقاعدَ منَ (السِلك)، حَمَلها مَعَهُ الى البيتِ من المخفر، ذَخيرةً، يَتبَرَّكُ مِنها ويُبَاركُنا بها، ويَدُمَعُ لأيامِ عِزِّها، مُستَذْكِراً ما كانتْ تَعنيه من مَجْدٍ وطنِيٍّ، وطمأنينةٍ سلاميةٍ للناس. وما أثار فضولي، احترامُهُ الشَديدُ لِلقبّوعَةِ التي إِستَوْدَعَها رأسَهُ لثلاثينَ سنةٍ من (الخدمة الفعلية)، تنقَّل في خلالها بين #طرابلس و #بيروت و #حمّان البَلْدَة ،التي أحبّها، حبَّهُ لبلدته و مَرْفَعِ رَأسِه #رأس_بعلبك، فعِشْنا فيها سِتاً وعشرين سنةً ،كانت لنا حَمَّانا، (جنّةَ لبنان) و ساحةَ الطفولةْ ومَرْبعَ الصِبا ومدخَلَنا الى الشباب ومدرسةِ الرجولة، لشدِّةِ ما تعلّقنا بأرضها وأهلها الطَيِّبينَ، فكُنّا مِنهم ولهم، وكانوا منّا ولنا، الى حدِّ الحُلول، ولا نزال… والفَضلُ، لأهلِ حمّانا الأَوفِياءِ الذين لكَثرَةِ ما إِستَلطَفوا أَبي و إستخلصوهُ و أَسكَنُوهُ قلوبَهم، ونادوه تَحَبُّباً بـ(جوز عمّتي)ُ… حتى غَدَتْ تلك المناداةُ الناعمةُ لَقَبَاً لازَمَه، الى ان غَابَ ، و لَمّا يَزّلْ عِطْرُهُ العَنبَرِيُّ يَفُحُّ منِ ذاكرةِ الأخيار… ولَعَلَّ (جوز عمّتي)، هو الوحيد من رجال الدرك، الذي خَدمَ في فصيلة دَرَكٍ واحدة على مدى سبعَ عشرة سنةٍ متواصلة، بسمَاحٍ من القادة ِوتَعَلُّقٍ من وُجَهاء حمَّانا وأهلها بشخصه، لأنه (أفندي البلدة)، بل إبنُها الأصيل، الذي ما بَخلَ عليها بعُصَارةِ القلبِ ولا بعرقِ الجبينِ ولا بالدمّ… يومَ تطلَّبَ الوفاءُ لأهلِها قُربانَةَ دَم…!! ************ شغلني بأبي، أيُّ إعتناءٍ كان يصرفه بالحرص على قبعته، (حبّة البركة)، فكان متى رَفعَها عن رأسه ِ،حضَنها كما الجوهرة، ووضعها أرفع َمكانٍ في البيت، خوفا على معنى القُبَّعة وكرامة الأرزة وما تحتها من ذخائر…!وكَمْ لافِتٌ ولذيذٌ أَن تَدفَعَني حُشريَّةُ الولدنةِ الى اللَّعبِ بالقُبُّعَةِ، في بَرْقةِ طَيْشٍ وتخلٍّ، فأختلِسُها للَحْظَةٍ، مُتمّثلاً الأفنديَّ الكبيرَ بِهَنَاءَاتِ وظيفتِهِ، مَزهُوَّاً بأنني إبنُ دركيٍّ، و أنَّ الدُنيا لي، فيردعني أبي، وكأنني صانعُ الكبائر، أو متجاسرٌ على كرامةِ البِذّةِ العسكرية، أو مخلٌّ بأمنِ ذكرياته الكاكيَّةِ، و يُنَبِهُني بعَبْسَةِ رِضىً وبنبرةٍ جادّةٍ، أن الكاسكيت شرف ُالعسكري وعنوانُ هَيبَتِه، فلا مَزاحَ معها ولا لهْوٌ بها ، بَلْتَأدِيَةُ تَحِيَّةٍ و إحترام وأنّها للمَهَمّاتِ فقط!!!
كنتُ مُطيعاً لأبي، اتَهيَّبُ كرامةَ الدرك، وفعلتُ كما كان يفعل… قبَّلتُ قبّعته برَجْفَةِ وَجَل، ورفعتُ اليه “ذخائره”، كأغلى من أَغلى التقدمات..خَفَضْتُ رأسي وأقفلتُ عينيَّ على زَعْلَةٍ… قلتُ “عفواً”، وأقسَمْتُ الاّ أدخُلَ قدسَ أقداسِهِ إلاّ وأنا مُسْتحِقًّ لعزٍّ ما فوقَهُ عزّ… هو ان أكون ابن دركي وإبنَ (جوز عمتي) بالذات. ************
لفتتني في سلوكيات أبي، المناقبيةُ المدنيةُ التي عاشها وربّانا عليها، من خلالِ سُلوكاتِهِ المرافقةِ لإستعمالات قبّعة الدرك. فها هو يحتضنها، كأغلى الأشياء على قلبه، ويحترمها، وكأنَّه في حضرة القائد، وها هو يرفعها احتراماً، اذا ما مرّ أمام كنيسة أو جامع، وهاكه يرفعها وقاراً اذا ما مرّت جنازة، أو يحملها بيده اذا ما سلّم على كبير مقام، أو حامل سنين من العمر… كانَ يفعلُ ذلك باحترام، وكأن شرف العسكري في سلوكيات قبّعته!!! ************
مرّة، قرّرت ان اقف على معنى مواظبة ابي على تقبيلِ قلبِ قبّعته مُغمِضاً عيْنَيْهِ، وكأنَّهُ في حَضرَةِ أيقونةٍ أوْ مَقامِ وَلِيّ! صَمَّمْتُ على إكتشافِ (سرّ مهنة )الخشوع للقبعة، التي ما دخلنا كنيسة أو مزاراً، الاّ ومَشَحَها بماءِ جرن التبرّكِ وحنى رأسَه، في رُتْبَةِ سُجود، وصلّى بصمت. جَمعتُ ضعفي وسألته مُتَهيّباً الموقفَ خَوفَ المزاح، وكان الجوابُ دمعةً باردةً، سرعانَ ما لمَعَت ْفي عَينَيهِ قَبلَ أَن تبلعَها غَصَّةٌ..لأن الدركيَ لا يبكي..حَضَنَني وأخبر: “يومَ تَطَوَّعْتُ في سلك الجندرمة، قدَّمتْ لي جَدتُكَ (صورةً مكرّسةً #لسيدة_رأس_بعلبك) وطلبَتْ مني ان اتبرّك من ايقونتها العجائبية، لأنها ستحفظني وتباركُ ايامي و مُشواري في هذه الحياة ، فأَطَعُتُ برضىً عظيم،..وكنتُ يا ولدي كُلَّما مُنِحْتُ إجازةً أَو سَنحَتْ ليَ فرصةٌ ، زرتُ أهلي وحجَجْتُ الى كنيسةِ سيدة الراس، حِفْظاً لوصيّةِ أُمّي، التي يومَ إنتقلَت الى رحمة الربّ، كانت راكعةً للصلاةِ في زاوية الدار، وفي يدها صورةٌ لأبنائها الثلاثة: كبيرنا يوسف في الجيش، وصغيرنا أنطون في الكلية البطريركية في القدس، وأنا، بعهدة الدرك.. ماتتْ وهي تُصلّي..! و أَوْجَعُ الوجَعِ، يا ولدي، ألاّ تموتَ أمُّكَ على زِندِكَ وِتُكَفِّنَها بِغَسْلَةٍ من عُمقِ عَيْنَيْك…، والأوجعُ ، أن تَتَيتَّمَ…{كلنا في اليُتْمِ طِفْلٌ..} يومَها يا ولدي، قرّرتُ أن أضعَ صورةَ أمّي الى جانب صورة “سيدة الراس” في ايقونسطاس قبعتي… وكم جميلٌ يا بُنَيَ أن تكلّل رأسك ببركة العذراء وتحمي نفسك بطيف أمّك..!! وليس من مكان أعظمَ من (كاسكيت الجندرمة) أَستضيفُ فيها ايقونةَالعذراء وصورةَ أمّي…”..!.
أخبرني، ترحّم… وتنهّد إيماناً ووفاءً لمَنْ أبَّدَ ذِكرَها في قبّعته – المزار ، وإرتاحَت ْعلى خَدّي دَمعَةٌ لأنني إكتشفتُ سرَّ طفولِيَّةِ أبي، وتربيتنا على الخير… ************
تنهيدةُ أبي، رَدّتني الى خواطرَ وتساؤلاتٍ عن سِرِّ مُواظَبَتِه على إحتفاليةِ التَمجيدِ التي كان يؤدِّيها للعَلم والقبّعة، وفريضة الخشوع للذخائر التي تسلّح بها في أدّق الملّمات. ..!
ويوم، تقاعدَ من الحياة، في تَقاعدِه الثاني، لَمْلَمْنا مَتروكاتِه مع شَيْلَةِ بُخُّورٍ ،ضَوّعْنا سُبحَتَه و(شحيمة الصلاة) وذكريات الخدمة ومحفوظات الجندرمة بإحترامٍ و عِنايَةٍ …لَمَّعْنا الأَوْسْمَةَ وكلّلنا بها قُبّعَةَ الأفندية، التي لا نزال نَرفَعُ بها رأسَنا إعتزازاّ ووفاءً، والتي كُلَّما إشتَقْنا لمُجالَسَةِ أبي، من وراءِ الغَيْم، قَبَّلْنَاها كَذخيرةٍ ِقماشيةٍ لشفيعِنا في السَمَاءِ الغائبِ عَنّا، والهارعِ إلينا غَبَّ الطَلَب، برمشة عين…!
قُبُّعَةُ أبي تَرشَحُ كَرامَةً وحُباً، ولا تتأخرُ علينا بالعطاء… نَحْنُ نطلبُ وهي تَستجيبِ…!

جـورج كـلاّس

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى