
ان التعمّق بفكر جوزيف أبو خليل من خلال كتبه ومقالاته ومحاضراته واجتماعاته هو ضرورة محورية للباحثين في تاريخ حزب الكتائب وعقيدته، كماوللباحثين في تاريخ لبنان المعاصر. فهذا الرجل هو صاحب باع طويل في الكتابة التاريخية العلمية، كما انه كان مشاركًا، وان احيانًا من وراء الكواليس، في صناعة القرار الحزبي او في التأثير الكبير عليه في اكثر المحطات الحرجة من تاريخ لبنان وتاريخ الكتائب.
انتسب عمو جوزيف الى حزب الكتائب عام ١٩٣٩، نظرًا لما كان يوفرّه وقتذاك هذا الحزب للبنانيين، ووفق قوله، من عزة وكرامة وقوة، أي كل ما “يستهوي جيل الشباب الباحث، عادة، عن عزة الانتماء الى وطن حرّ، وسيد كريم”. وفي ٥ نيسان من العام ١٩٤٣، قدم طلب انتسابه الى الحزب حسب الأصول المتبعة، ورأى في انتمائه هذا انتماءً الى رهبانية، نظرًا لالتزام الكتائب الشديد بالوطن اللبناني، كما والتزام الكتائبي بالقواعد الخلقية والتقيّد بقرارات الحزب. بعد ذلك، تشبّع أبو خليل العقيدة الكتائبية من جذورها، والتي يعتبر جوهرها الحرية وكرامة الشخص الإنسانية، والتي هي وبكل الأحوال علّة وجود لبنان. لذلك آمن عمو جوزيف، ونظرًا لهذا الارتباط الشديد بين لبنان والكتائب، ان هذا الاخير هو غير كل الأحزاب، لأن محور عمله السياسي هو الدفاع عن لبنان، وليس البحث عن سلطة ونفوذ. من هنا اتى دور الكتائب الرئيسي في تحقيق الاستقلال الأول، والذي اعتبره كثيرين وقتذاك مجرد مغامرة، إلا ان الكتائب جعلت، ووفق جوزيف أبو خليل، “من نفسها اشبه برقيب دائم على حسن تطبيق الميثاق”، لتثبت ان هذه المغامرة تستحق التضحية، لإن الهدف السامي يتلخصببناء وطن تعددي ومتنوع ذات دولة عصرية ومتمدنة.
في العام ١٩٥٨، اضحى مشروع الكتائب في ذلك الوطن مهددًا نتيجة الاطماع المصرية التوسعية بقيادة جمال عبد الناصر. وكان من الطبيعي ان تقف الكتائب في وجه سياسة عبد الناصر التخريبية، وقد كان لعمو جوزيف دورًا اساسيًا في مقاومةهذا الخطر. ونظرًا لأهمية الاعلام وقتذاك وبسبب استخدام النظام المصري لوسائل الاعلام العربية للترويج لحملاته من البروباغندا المزيفة، وجد أبو خليل ضرورة في إنشاء إذاعة تكون مهمتها الأساسية الدفاع عن مشروع لبنان وصدّ الحملات المصرية المغرضة بحق لبنان. وهكذا قام بتحويل غرفة أحد بناته الى مقر للإذاعة بكل لوازمها مطلقًا عليها اسم “صوت لبنان”. وما لبثت ان تحولت هذه الاخيرة، الى إذاعة رسمية لحزب الكتائب.
وبُعيد حرب ١٩٦٧، أطل خطرًا أخر، وقد تمثّل هذه المرة من خلال المخطط العربي والدولي وادواته الفلسطينية للقضاء على مشروع الوطن والدولة. وبدأ هذا الخطر يتجسّد عبرالمسرحيات الاستفزازيةالتي كان يلعبها الفلسطينيون المدججين بالسلاح في شوارع بيروت.وفي صبيحة يوم الاحد الواقع في ١٣ نيسان ١٩٧٥،اتى من خارج الحدود، امر العمليات الذي قضى بوضع حد للحقيقة اللبنانية المتمثلة بدولة بكل ما للكلمة من معنى، في منطقة عجزت أغلب شعوبها عن بناء مثيل لها. وخلال تلك الحرب، والتي استمرت قرابة خمسة عشرعامًا، لعبت الكتائب دور محوريًا حاولت من خلاله،وبكل ما أوتي لها من عزم وقوة وشجاعة، على وقف انهيار المشروع الذي كان أبو خليل يعتبره مغامرة، وبالتالي لم يكن هناك، ووفق اعتقاده، من مجال للوهن او للتراجع. وفي تلك الحرب التي ترافقت مع انحلال الاخلاق والقيم، بقي عمو جوزيف وفيًا لقضية الكتائب ولخطّها التاريخي، فكان يُعدّ أوراق عمل الحزب الى مؤتمرات الحوار المتعددة، والتي كان يشدد فيها وفي كل كلمة منها وعند كل فاصلة على فكرة ان هذه الحرب هي مرحلة سوداء واستثنائية وانها بالتالي ستنتهي حكمًا، ولا بدّ لنا جمعيًا كلبنانيين، ووفق أبو خليل، ان نتحاور ونتصالح لنعود ونلتقي حول المشروع الأساس. ومن هنا كان يأتي تشديد الشيخ بيار الجميل على أهمية الدولة ومؤسساتها عندما كان يقول: “لا أحد يقوم مقام الدولة فيما كل محاولة للحلول مكانها هي بمثابة تكريس لضياع ما هو ضائع من وجودها وحضورها”. ولكن وللأسف، وكما يقول جوزيف أبو خليل: “ان قيادة الشعوب لا تكون بالنظريات والاحكام العقلية فقط. فأحيانًا الشعوب لا تسمع، ولا تصغي، وبخاصة حينما تكون منكوبة او خائفة او مضطربة”.
وخلال عهد الرئيس امين الجميل (١٩٨٢-١٩٨٨)، والذي لم يترك خلاله الجميل بابًا إلا وطرقه في الدفاع عن مشروع الدولة، كان جوزيف أبو خليل دومًا الى جانبه، خاصةًوما تعرّض له الرئيس الجميل بشخصه وبعهده من تجريح وتنكيل ومحاولات افشال كافة خططه، من الاقربين قبل الابعدين. ونظرًا لما يتمتع به من مصداقية، يُشكّل ما كتبه جوزيف أبو خليل في دفاعه عن الرئيس امين الجميل براهين علمية لكل من أراد محاكمة الرئيس الجميل. إذ أقسم عمو جوزيف ان الرئيس الجميل “لم يأت يومًا بعمل سياسي منافي لخلقية تربّى عليها منذ صغره. فهو ليس من الذين يأمرون بالقتل والاغتيال، او بسفك الدماء، كما معظم الذين خاضوا حرب لبنان الوسخة”. وما أن وضعت الحرب اوزارها بعد عملية ١٣ تشرين ١٩٩٠، ونظرًا لما آلت اليه أوضاع لبنان الذي دخل ونتيجة لظروف إقليمية ودولية تحت الاحتلال السوري المباشر، بدأ عمو جوزيف مرحلة جديدة من نضاله السياسي، مرحلة مراجعة شاملة وناقدة لكل فترة الحرب. واتى كتابه “قصة الموارنة في الحرب” من بين الكتب القليلة التي تضمنت نقد ذاتي وحكم على مرحلة قاتمة فُرضت بالقوة على اللبنانيين كما على الكتائب، وقد يكون هذا الأخير وحيدًا ممن اجرى هكذا مراجعة. وقد يكون جوزيف أبو خليل، في كتابه هذا، من بين القلائل الذين احاطوا إحاطة شبه كاملة بمسببات الحرب وصيرورتها ونتائجها. فهو الذي رأى فيها جزءً من حرب مناطقية، كما انها جزءً من صراع أجيال، وجزء من مؤامرة دولية بأدوات إقليمية ومحلية للقضاء على المشروع اللبناني. ولعل ابلغ دليل على ذلك، قيام الفلسطينيين ومن ركب موجته بالاعتذار عما اقترفوه بحق لبنان.
أن فكر جوزيف أبو خليل هو فكر كتائبي ووطني بامتياز، وهو فكر مبدئي نابع حصرًا من ايمان كبير بمشروع الدولة. ويأتي هذا الفكر، وبطبيعة الحال، من ضمن سياق الفكر النهضوي الذي حمل لوائه اللبنانيون مجتمعين منذ أوائل القرن السادس عشر مع الأمير فخر الدين المعني الكبير، مرورًا بالبطريرك اسطفان الدويهي، والبطريرك بولس مسعد والياس الحويك، كما وببعض القيادات الوطنية من رياض الصلح وكميل شمعون والامام موسى الصدروغيرهم من كافة الطوائف والانتماءات. ونظرًا لحجم هذا الفكر، ولدور جوزيف أبو خليل، فنحن بحاجة ماسة الى تسليط الضوء اكثر عليه من خلال سلسلة محاضرات ومنشورات، خاصةً واننا اليوم في أمسّ الحاجة الى حدّ ادنى من هذا النوع من الفكر العميق. فوحدها هكذا نوع من الأفكار من باستطاعتهاقيادة المجتمع وإيصاله الى ما يطمح اليه.