
بقدر ما كان مظفّر النواب منشغلاً بالهم العام، كان معنياً بالجمال والحب والعشق والوجد والصبابة، بل أن كلّ شيء فيه كان تعبيراً عن ذلك الشوق الغامض الذي يتوق فيه إلى التواصل والتفاعل، لأنه شاعر الحواس المتأهبة واللغة المتوهّجة والحركة المتدفّقة، فحتى نقاطه وفوارزه وسكونه كانت تحكي وتطلق أصواتاً موحيةً وآسرةً متفاعلةً ومنفعلةً.
لم يكن مظفّر النوّاب شاعراً فحسب، بل كان حالة شعر تصاعدت في قصيدة شعبية جديدة لم يألفها الأدب العراقي قبله، بما اختزنت من صور وإيحاءات وفكر وحنين وجمال، امتدّت من الحاج زاير (النجف 1860 – 1919) وملّا عبود الكرخي (الكرخ – بغداد 1861 – 1946) وصولاً إلى مظفر النواب الذي بنى مدرسةً رائدةً هندسها بالتجريب والتراكم الطويل الأمد، حتى أضحت واحةً وارفةً مزدهرةً. وسار في هذا الدرب من بعده شعراء عديدون مثل شاكر السماوي وعزيز السماوي وكاظم اسماعيل الكاطع وعريان السيد خلف وطارق ياسين وموفّق محمد وكاظم غيلان وفالح حسون الدراجي ورياض النعماني وجمعة الحلفي وغيرهم، وإن كان لكل منهم أسلوبه ولونه. وإذا كان الشعر الكلاسيكي منبرياً ويُقرأ بصوت عال وأمام الجمهور بما يُعبّر عن بلاغة وجزالة وفخامة وأصوات وقواف وأوزان، فإن الشعر الحديث وقصيدة النثر يُقرأ بتأمل وخشوع في نوع من التماهي البانورامي، خصوصاً بما يمنحه من أحاسيس ومشاعر وألوان وصور.
والشعر عندي رؤية ولغة وجمال وافتتان وفلسفة وأفق بلا حدود، وكان عند الإغريق أن الجمال مرادف للوجود، والجماليات عند الشاعر هايدغر هو ما أولته الفلسفة من اهتمام بالشعر، خصوصاً خلال ما يزيد عن قرنين من الزمن، حين حاول كانط أن يُسكنه في ما أطلق عليه مفهوم الجماليات والاستيتيقا، وهكذا نشأ الأساس لما عرف بعلم الجمال، في حين أن هايدغر حينما يتحدث عن الشعر لا يسعى قط إلى تجديد علم الجمال وإنما لإثبات العلاقة بالجميل، ولا يمكن أن توصف هذه العلاقة بأنها جمالية، إلّا من وجهة النظر الذاتية، كما لا يمكن اختزال الشعر باللغة. وحسبما يقول أدونيس “لا يمكن وضع تعريفات نهائية للشعر، إنه يفلت من كلّ تحديد، ذلك أنه ليس شيئاً ثابتاً وإنما حركة مستمرة من الإبداع المستمر.. يجيء من أفق لا ينتهي ويتّجه إلى أفق لا ينتهي. ذلك أنه لا يجيء من معلوم مسبق، إنما يجيء من مجهول لا ينكشف بشكل نهائي، لأنه حاجة دائمة إلى الكشف” (أدونيس – الثابت والمتحوّل، دار الساقي، بيروت، 2006 /أربعة أجزاء، ج 4، ص 246).
الصوت والصورة جمع مظفّر النوّاب بين الصوت والصورة بحيث لا يمكنك أن تتخيّل أصوات مظفر النواب دون صور معبّرة وموحية، فقد تمكن من إعطاء الصورة صوتاً، مثلما أعطى للصوت صورة، وعلى الرغم من كونه شاعراً منبرياً واعتاد الوقوف طويلاً أمام الجمهور، إلّا أن منبريته لم تكن دعووية وتبشيرية ودعائية، بقدر ما كانت تساؤلية عقلية نقدية، ومثلما فيها اقتحامية وتدافع لكي تأخذ مكانها خارج المألوف، فقد كانت الأكثر رنيناً وموسيقيةً وإيحاءً وبوحاً، وبقدر ما كان الصوت عالياً، إلّا أنه كان شفيفاً لأنه صادر من القلب وباحث عن الحقيقة، وأي حقيقة في الشعر فتلك حقيقة مجسّمة. تقاسم الجمهور مع أبو كاطع اجتمعت في مظفّر النوّاب قدرة هائلة في اجتذاب الجمهور، بل استقطاب جموع غفيرة من شتّى الألوان والأجناس والأجيال والاتجاهات، فيهم أصدقاء وأعداء وأصحاب وخصوم، وهو بهذا يتقاسم الجمهور مع الروائي أبو كاطع (شمران الياسري)، وقد امتلك كل منهما قدرة في تحريك الراكد وخلخلة الساكن واستنطاق الجامد. إنها قدرة هائلة على التعبئة والتحريض وامتلاك فنون التأثير بالقوة الناعمة التي تدخل القلوب قبل العقول، فما بالك حين يقترب القلب من العقل. وفي كتابي الموسوم “أبو كاطع: على ضفاف السخرية الحزينة” (الصادر في لندن عام 1998، وطبعة ثانية، دار الفارابي، بيروت، 2017) أهديته إلى مظفر النواب مع مقطع شعري من قصيدة “المساورة أمام الباب الثاني: في طريق الليل ضاع الحادث الثاني وضاعت زهرة الصبار لا تسل عنّي لماذا جنّتي في النار فالهوى أسرار كل ما في الكون مقدار وأيام له إلا الهوى ما يومه يوم.. ولا مقداره مقدار.
عبر الحركة وقوة الإلقاء والتأثير استطاع مظفّر النواب، على مدى يزيد عن خمسة عقود من الزمن، امتلاك قلوب الجمهور نساءً ورجالاً، عرباً وكرداً ومن كل المجموعات الثقافية، محكومين وحكّاماً، حتّى وإن قرّع الأخيرين، إلّا أنهم كانوا يتقرّبون منه، ضحايا وبيروقراطيين، مثقّفين وعامة، يساريين ويمينيين، وقد يكون تمكّن من ذلك لاعتبارات رمزية اجتمعت في شخصه منها شجاعته وزهده وسموّ أخلاقه وانسجامه مع نفسه، فقد كان يربط القول بالفعل، إضافة إلى إبداعه وتميّزه، وهو ما أكسبه شهرةً سياسيةً امتزجت بالمخيال الشعبي، من خلال أسطورة حفره نفقاً في سجن الحلّة (1967) للهروب منه بعد الحكم عليه بالإعدام ثم تخفيضه إلى المؤبد وقضاء عدّة سنوات في سجن نقرة السلمان الصحراوي، ناهيك عن صوره الحسيّة وما في صوته من حسّية أيضاً، وما في روحه من حسيّة وما في عينيه الواسعتين من حسيّة، ولعلّ تلك الرمزية الحسيّة هي ما كان يبحث عنه المواطن العربي في كلّ مكان الذي كان مظفر يعبّر عنه وينطق باسمه ويشاركه أحزانه ويشاطره أحلامه. مظفّر النّواب وفيورباخ يمكن القول أن مظفّر النواب كان حسيّاً بامتياز، بل فيورباخياً (نسبةً إلى الفيلسوف الألماني الأنثروبولوجي لودفيغ فيورباخ الذي تأثّر به ماركس وإنجلز وفاغنر ونيتشه)، والمفكّر الحسّي يفرّق بين الحقيقة الحسيّة والحقيقة الفكرية. كل ّذلك يمكن تلمّسه والشعور به منذ أول وهلة وأنت تقابل مظفر، وظلّ هذا الإحساس يراودني حين كنت أقرأ قصائد مظفّر الأولى: للريل وحمد ويا ريحان.. إلخ، وزاد إلى درجة كبيرة حين تعرّفت عليه قبل خمسة عقود ونيّف من الزمن في بغداد وفيما بعد في براغ والشام وتعدّدت المدن والأماكن واللقاءات، وتنوّعت وتوسعّت واكتسبت علاقتنا عمقاً كبيراً، وكم من مرّة وجّهت له الدعوة للحصول على الفيزة بجواز سفره اللّيبي الموسوم “أحمد سليمان التائب”. وحصل عليه بعد أن تعرّض إلى حادث قد يكون مدبّراً في اليونان، علماً بأنه رفض عروضاً كثيرة بهذا الخصوص، وكان يتمتع بكبرياء وعزّة نفس وإباء لا حدود لها. وحسيّاً فإن أوّل الصور التأثيرية تنتقل عبر الصوت، أي من اللسان (الفم) وهكذا تصل إلى الأذن، وهي المحطّة الأولى، وتقوم هذه بدورها بتحويلها سريعاً إلى المخ (الدماغ)، وهذا الأخير يرسلها إلى القلب، والقلب يقوم بفرزها حسيّاً بالحب أو الكره، بالإيجاب أو السلب، بالتأييد أو التنديد، بالاستجابة أو الرفض، وهكذا. *** الصورة موسيقى أيضاً يتحوّل صوت مظفّر حسيّاً إلى صور متحرّكة، وهي صور جاذبة مصحوبة بموسيقى وإيقاعات، وبقدر ما تكون الألوان ساخنة فهي تمتلك قدرة على إيقاع المتلقّي في شركها، فيستجيب لها تأثراً بأحزانه وهمومه ومعاناته وأحياناً يلعب معه مظفر النواب فيدعوه إلى فضاء من السخرية لرسم صور كاريكاتورية لشخصيات وحالات وظواهر وهو ضحك كالبكاء على حد قول الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي.
مسرحة الشعر وبين الضحك والبكاء وما بينهما يأخذ مظفر النواب المتلقي إلى عوالم خاصة مصحوبة بالإحساس ليعيش لحظة الإندغام والإندماج والتفاعل والتداخل والتراكب، لدرجة يشعر المتلّقى أنه جزء من المشهد، بل يشارك فيه حسب نظرية برتولد بريخت. وحاول مظفر النواب أن يمسرح الشعر بطريقة إلقائه واستخدامه خشبة المسرح للتمثيل عبر نصه الشعري وملحمته السردية وإثارته وصوته الذي يستخدم طبقاته بطريقة بارعة وبكثير من الجدارة بحيث يتمكّن من الصعود والنزول والحركة بشكل عذب ومؤثّر، وذلك من خلال الحركة داخل المسرح. المسرح هو الحياة ولا انفصام بينه وبينها، بكلّ ما يتعلّق بمشكلاتها وإشكالاتها التي تقع بين الناس وفي العلاقات الاجتماعية ومكنونات النفس البشرية. كل ذلك يجري بالإيماءة والموسيقى ليس موسيقى الكلمة ودلالتها الإيقاعية، بل استمزاجاً وقربى مع عذوبة صوت سعدي الحديثي صديقه العتيد وربابته أو بمرافقة أحمد مختار وعوده الأنيق. وقد استخدم الفنان الملحّن القدير طالب القرغولي ذلك أحسن استخدام كما فعل المطرب الكبير الياس خضر والمطرب المتميّز سعدون جابر وهما من أكثر الأصوات اتساقاً مع إبداع مظفّر النواب ونصّه الشعري، لذلك سمّي المسرح مسرحاً لأنه أبو الفنون، بل يجمع عدّة فنون بما فيها الشعر والرواية والقصة والموسيقى والرقص والصوت (الغناء) وأجناس أدبية أخرى.