
مسيّرات حزب الله الثلاث المحلّقة فوق حقل كاريش للغاز أقلقت القيادتين السياسية والعسكرية في «إسرائيل»، فأرعد وأزبد أركانها وهوّلوا على لبنان بالهول والثبور وعظائم الأمور. لكن بعدما بحث رئيس حكومتها الجديد يائير لبيد الحدث المقلق مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، هدّأ الأخير من روع لبيد وأعلن بثقة «أن للبلدين مصلحة في التوصل إلى اتفاق يسمح باستغلال موارد الطاقة لمصلحة الشعبين».
الأمريكيون أقلقتهم أيضاً المسيّرات الثلاث، وهوّلوا بدورهم على المسؤولين اللبنانيين، ولاسيما على رئيس الجمهورية ميشال عون لإصدار بيان بإدانة عملية المقاومة، لكن عون رفض الخضوع، فكان أن تبرّع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ووزير الخارجية عبدالله بو حبيب بمخرج مسيء للمركز التفاوضي اللبناني، بقولهما «إن إطلاق المسيّرات أمر غير مقبول وخارج إطار مسؤولية الدولة والسياق الدبلوماسي لترسيم الحدود البحرية».
حزب الله لم يردّ على خصومه المحليين، ولا على أعدائه الصهاينة والأمريكيين. واكتفى بالقول إن المسيّرات غير المسلّحة أنجزت مهمتها وإن «الرسالة وصلت».
ما مضون رسالة الحزب؟
مقرّبون من قيادة المقاومة قالوا إنها حريصة على التأكيد بأنها ليست طرفاً في لعبة المفاوضات، وإنها تخشى تهاوناً من طرف بعض المسؤولين اللبنانيين في الدفاع عن حقوق لبنان في ثروته النفطية والغازية، بقصد استرضاء الولايات المتحدة خشية التعرّض لعقوباتها، ثم إن «إسرائيل» لجأت إلى إضاءة «شعلة الغاز» للإيحاء بأنها بدأت فعلاً باستخراج الغاز من حقل كاريش، ما يشكّل تحدياً للمعادلة التي كان أطلقها السيد حسن نصرالله بأن التنقيب ممنوع في المنطقة المتنازع عليها قبل التوصل إلى اتفاق حول ترسيم حدود لبنان البحرية مع فلسطين المحتلة. مع العلم أن قيام حزب المقاومة بإطلاق مسيّرات غير مسلّحة يعني أن بإمكانه، إذا اقتضى الأمر، إطلاق أخرى مسلّحة ما يفرض على العدو أن يبني على الشيء مقتضاه. إلى ذلك، فإن الرسالة التي حملتها المسيّرات الثلاث ليست موجهة إلى «إسرائيل» فحسب، بل إلى الولايات المتحدة أيضاً، بما هي حاضنة الكيان الصهيوني وحليفته في الحرب، كما في المفاوضات. وبما أن الرئيس الأمريكي جو بايدن على أهبة القيام بزيارة قريبة لدول المنطقة، والتباحث مع قادتها بشأن العديد من القضايا البالغة الأهمية، فإن الأهم في نظر حزب الله، على ما يبدو، إشعار واشنطن بأنه جاد جداً في الدفاع عن حقوق لبنان وثروته النفطية والغازية، وإنه لن يتردد في التصدي بقوةٍ لـ»إسرائيل» كما للولايات المتحدة نفسها التي تمارس ضغطاً شديداً على شركات الحفر والتنقيب الغربية، لمنعها من التعاقد مع لبنان وسوريا اللتين تمتلكان موارد نفطية وغازية هائلة على امتداد سواحل الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.
بعبارة أخرى، يريد حزب الله ومن ورائه أطراف محور المقاومة والممانعة، أن يقولوا للولايات المتحدة إن ترسيم الحدود البحرية وترميم العلاقات السياسية الاقتصادية، مشروطان بتحرير غاز شرق البحر المتوسط من قبضة أمريكا وضغوطها على شركات الحفر والتنقيب الغربية. فلا يكفي أن تحاول واشنطن تدوير الزوايا بين «إسرائيل» ولبنان للتفاهم على ترسيم الحدود البحرية في المنطقة المتنازع عليها بين الخط 29، حيث يقع أكثر من ثلث حقل كاريش في المياه الإقليمية اللبنانية والخط 23، حيث يقع معظم حقل قانا اللبناني، بل يتعيّن على واشنطن أن ترفع ضغوطها عن شركات الحفر والتنقيب الغربية، لتمكين سوريا ولبنان وقطاع غزة من استغلال مكامن النفط والغاز على طول سواحلهما المتشاطئة مع الحوض الشرقي للبحر المتوسط. تبدو أطراف محور المقاومة والممانعة واثقة من قدرتها على النجاح في مجابهتها للولايات المتحدة، وذلك بسبب تطور استراتيجي بالغ الدلالة، إنه الحرب الروسية الأوكرانية التي أدت إلى قيام موسكو بخفض تدفق الغاز الروسي إلى دول أوروبا الغربية، ما أدى إلى إضعافها اقتصادياً. لذا، ولتدارك إمكانية المزيد من خفض الغاز الروسي، قامت واشنطن بتوليف اتفاق بين مصر و»إسرائيل» وقبرص واليونان، على نقل إنتاجها من الغاز المستخرج من حقولها في الحوض الشرقي للمتوسط إلى أوروبا. في هذا السياق، تبتغي واشنطن تأمين حصول دول أوروبا على الغاز من مكامنه على الساحل اللبناني، وذلك باللجوء إلى استغلال مطامع «إسرائيل» في ثروة لبنان الغازية في مكامن قريبة من حدوده البحرية مع فلسطين المحتلة، بغية حمله على القبول بترسيمٍ لحدوده البحرية، يضمن مصالح «إسرائيل» ومطامعها، كما يفسح في المجال لمساومة لبنان برفع الحظر المفروض على شركات الحفر والتنقيب الغربية، لقاء ترتيبات واتفاقات تكفل نقل الغاز المستخرج إلى دول غرب أوروبا.
في المقابل، يهدد حزب الله، ومن ورائه أطراف محور المقاومة، بتدمير منصّات استخراج النفط والغاز البحرية الإسرائيلية، إذا حاولت حكومة الكيان الصهيوني مباشرة استخراج الغاز من حقل كاريش ونقله إلى مصر وتالياً إلى أوروبا قبل التوصل عبر الأمم المتحدة إلى اتفاق لترسيم الحدود في المنطقة المتنازع عليها. صراع الإرادات والمصالح بين جميع الأطراف محتدم ومتفاقم.