عندما وصلني من مصر، عَبرَ المسنجر، ديوان صديقي الشاعر ناصر رمضان، بعنوان
” للحُبّ رائحة الأرق”، وجدتُه ينتمي إلى شعر الومضة أو ما يُقال له الهايكو الياباني، وبما أنّه سمح لنا، مشكورًا، بنشره كاملًا على صفحة المنتدى الأدبي الأسترالي العربي، وجدتُ أنّه قد يكون من المفيد أنّ أعطي نبذة تاريخيّة مختصرة عن هذا النوع من الشعر الذي ما زال حتى الساعة، مسألة يدور حولها الكثير من الجدل الأدبي.
في إحدى ليالي سنة ١٦٩٤، بينما كان معلم الهايكو الأول، الشاعر الياباني، ماتسوو باتسو (١٦٤٤-١٦٩٤)، يلفظ أنفاسه الأخيرة، كتبَ:
“مريضٌ وقتَ ترحالي
وأحلامي تتجول طافية
في الحقولِ الذابلة”
تعريف الهايكو:
هو نوع من الشعر الياباني، يحاول الشاعر فيه من خلال ألفاظ بسيطة، التعبير عن مشاعره واحاسيسه العميقة. تتألف أشعار الهايكو من بيت واحد فقط، ويكون من سبعة عشر مقطعًا صوتيًا ( باللغة اليابانية)، وتُكتب عادة في ثلاثة اسطر (٥/٧/٥).
اجتاز الهايكو اليابان ليصل الى العالم بأسره، فوصل إلى شواطئ الشعر العربي الذي كان يتميز بقصائده الطويلة، ببحوره وقوافيه.
هاجمه النقاد في بواكيره لكنه استمرّ مثبتًا كيانه، وأُطلق عليه عند العرب اسم الشعر الومضة أو الشذرة أو التوقيعة. ويقول الشاعر المغربي سامح درويش، وهو يُعدّ من اهمّ شعراء الومضة المعاصرين، أنّ وجود الهايكو في الشعر العربي هو نتيجة “المثاقفة العربية اليابانية” التي تعززت في ستينات القرن العشرين، ويضيف أنّ الهايكو العربي لن يكون له معنى إذا لم يأخذ من روح وثقافة الشعب العربي، وأهم خصوصيات الهايكو العربي تتمثل في وجود نفحة غنائية وجرعة من المجاز وحضور ذات الشاعر بشكل أقوى من باقي تجارب الهايكو عَبرَ العالم، ويضيف إلى ذلك الخروج عن الإيقاع الياباني نظرًا لخصوصية اللغة العربية، مع التأكيد على الإبقاء على روح الهايكو المتمثلة في البساطة والآنية والتحلل من زخارف البديع دون إهمال روح البلاغة المتجددة.
وهناك ترجمات للهايكو الياباني والعالمي الى اللغة العربية وخاصة في العقود الأخيرة، تمّ تقديمها من المترجمين العرب أمثال: عبد الكريم كاصد، محمد عضيمة، وحمد الأسعد وغيرهم.
ولقد شهدت ستينات القرن الماضي أولى محاولات الهايكو العربي بدءًا بتوقيعات الشاعر الفلسطيني عزّ الدين المناصرة، وبرقيات الشاعر السوري نزار قباني، وتأملات الشاعر وعالم الأجتماع المغربي عبد الكبير الخطيبي، مرورًا بتجارب الكتابة على نمط الهايكو مثل تجربة كلّ من عدنان بغجاتي، وعز الدين الوافي وغيرهم.
ما يميز شعر الومضة هو الخيال المتأجج، البعد عن الحشو، التركيز على الكلمات ذات الكثافة والمفاجأة التي ترافقها الدهشة.
ولا بُدّ من ذكر أن ١٤ سبتمبر ٢٠١٩، كان يومًا حافلًا لشعر الهايكو في طوكيو حيثُ تمّ إحياء الندوة العالمية للهايكو في دورتها العاشرة، وهي تُقام كلّ سنتين، على أن تُقام في المغرب عام ٢٠٢١.
وأنا اكتب عن شعر الهايكو، تذكرتُ زيارتي إلى اليابان سنة ٢٠١٦، حيثُ لفت نظري واجهات محلات بيع الزهور، التي كانت تعرض تنسيقات رائعة الجمال تحتوي على وردة واحدة فقط، هذه الوردة تمثل شعر الهايكو، هي بيت القصيد في القصيدة العربية الطويلة التي قد تغلب عليها الصنعة عند البعض في دروب ملاحقتهم للأوزان والقوافي.
لذلك نرى بعض الشعراء المعاصرين يلجأون إلى شعر الومضة، كشاعرنا المبدع ناصر رمضان، حيث قدّم في ديوانه ” للحُبّ رائحة الأرق”، ومضات، مُدَمّجة، معجونة بالمشاعر والأحاسيس والمعاني المتجددة وذلك دون أنّ يهمل موسيقى اللغة العربية الساحرة…
سأتطرق إلى قراءة بعض الومضات في ديوان الشاعر ناصر رمضان:
“الحُبّ:
حالات من الدوران أعرفها
كعاشق رقصة التنورة
يدور يدور لا يغشى
وكلّ الناس مبهورة”
(٩٧، شعر)
هذه الومضة تصور لنا حالة الحب عند الشاعر، الحب الذي تغلفه قدسيّة المتصوفين، رقصة التنورة وما فيها من العشق الألهي والفرح والتفاني. الحب يجعل العاشق يدور في عالم طاهر، يدورُ ويدور معه العالم، والناس مبهورة، فقط العشاق يفهمون المعاني، فقط الذين اختبروا العشق يمكنهم الدخول إلى معبد الشاعر، قلبه الذي يجمع كلّ ما هو إلهي وبشري…
“بالحُبّ أطوي البيدا طيّا
وأشعرُ أنّي ما زلتُ حيّا”
(٢٨، شعر)
كم من الغنى في هذه الومضة، إنها كالقرص المُدَمَّج الذي يحتوي على كلّ الأغاني والمواويل التي تُحدّث عن تجربة الحب عند الشاعر. فالحب عنده هو أكسير الحياة، بالحب يصبح ذاك الجواد الجامح الذي يطوي الصحاري بقوة العنفوان، يتحدّى المصاعب ليصل إلى الحبيب حيث الوصال والفرح ومعنى الحياة، ذاك الحب الذي لا عطش بعده. هذه الومضة تُصوّر بثواني كلّ الإرث الإجتماعي العربي ونستذكر “الصحراء والبيداء تعرفني..” وقيس هائمًا في الصحاري، وعنترة في ميادين القتال يلمح ابتسامة حبيبته من خلال لمعان السيوف، والعديد العديد من الصور المطبوعة في مخيّلة القارئ العربي…
“وما ليلي سوى
ليلى أعاتبها
فلا ليلي ولا ليلى
أجابا”
(١١، شعر)
يلعب الشاعر في هذه الومضة على الطباق اللفظي، فيدمج الليل وليلى، فهو يعيش ليلًا يقاسي فيه من عِشْقٍ المحبوب وهجره، فلا الليل يجيب لأنّاته، ولا ليلى تحنّ. وتعود إلينا صورة قيس يتحرق شوقًا هائمًا في الصحاري، فرمزيّة الاسم هنا تغوصُ في عمق تاريخ الحب عند العرب، وتبقى ليلى رمزًا للعشق والعذاب والالم حتى الموت، ويبقى قيس رابضًا في مخيّلة كل العاشقين…
“عَجَزَ الإنسانُ العربي عن التفكير
فلجأ إلى التكفير”
(٢٠، نثر)
الومضة ممكن أن تُشعل ثورة، تهدّ جبالًا وتبني مجتمعات، فهذه الومضة للشاعر ناصر رمضان هي محاولة إصلاح في نمط الفكر العربي، حيث أنّ المجتمعات العربية تفتقر إلى مراكز للأبحاث العلميّة، ورؤوس الأموال عوضًا عن تكريسها للأبحاث العلمية، نراها تتوجه إلى الدراسات الدينية السطحية التي تحضّ على التفرقة وتكفير الآخر، وكأننا ما زلنا حتى اليوم نبحث في جنس الملائكة متناسيين حاجات العصر الحاضر من ضرورة البحوث العلميّة والتقنيّة، لهذا نجد مجتمعاتنا العربية في أدنى المستويات العلمية مقارنة مع باقي الدول…
خاتمة:
وهكذا نرى أنّ شعر الومضة، الهايكو، هو قصيدة التكثيف والتلميح والإيحاء وإعطاء القارئ الفرصة للتفكير والجنوح بخياله الخاص إلى ما ابتدأ به الشاعر، هي قصيدة النضج الفكري للشاعر وللقارئ معًا، هي قصيدة الصمت الذي يُحدّث المتلقي، هي بداية الطريق، يضعك الشاعر في المقدمة، بفتح الطريق ببعض المفاتيح الصلدة وعليك انتَ ايها القارئ أن تكتشف كلّ تعرجاته، وديانه وجباله لذلك هي كُتبت للقارئ المثقف الذي يتمتع بإحساس شعري مرهف، قارئ يمكن أن يتخيّل ويستنبط، فالومضة هي القصيدة المفاجأة، تترك القارئ مندهشًا، يريدُ المزيد ولا يجد الإجابة إلا في أعماق نفسه…
البروفسورة أميرة عيسى