خاص الموقع

٥٠ سنة حرب لم تغير رأيي “خسرتُ العالم وربحتُ نفسي” بقلم: نبيل حرب

ماذا أفعل يا وطني إن كنتُ أعشقك؟
ماذا أفعل يا وطني إن كنتُ لا أرغب أن يحتضنني غير تراب أرضك؟
ماذا أفعل يا وطني إن كنتُ أحب شعبك، أحب الفقراء ورائحة عرقهم، أحب عمّالك وطُهر لقمتهم، وأكره هؤلاء اللصوص الذين جمعوا الأموال وأثرَوا على حسابك، بعدما سرقوا اللقمة من أفواهنا؟
ماذا أفعل يا وطني إن كنتُ مُعجبًا بتاريخك، وبنضال الآباء والأجداد، وبإبداعاتهم وعطاءاتهم وإشعاعهم؟ وبالمغتربين في كل أقطار العالم وقد تحوّلوا إلى نجومٍ ساطعة في سماء الدول التي استقبلتهم؟ فصرنا، رغم صغر مساحة أرضنا، دولة لا حدود لانتشار أبنائها في العالم…
ماذا أفعل يا وطني إن كنتُ أحترم شعبك الذي كتب التاريخ أكثر من مرة بمداد الشرايين؟
ماذا أفعل يا وطني إن كنتُ أحب رجالك ونساءك الذين يُسابقون الفجر لتحصيل لقمة العيش بكرامة، رغم كل الظروف الصعبة والغلاء والبلاء، ورغم ما أُقدم عليه من جريمة كبرى بسلب الشعب مدخراته وقروشه البيضاء؟
ماذا أفعل يا وطني ولم أُبصر في حياتي جبلًا أرفع من جبالك، ولا ثلجًا أنصع بياضًا من ثلجك، ولا شطآنًا أروع من شطآنك، ولا غروبًا أجمل من غروب شمسك وشروقها؟
ماذا أفعل يا وطني إن كنتُ متعلّقًا بشعبك الحيّ الطموح، الذي يتحدى المحن، ويقهر الصعاب، ويهزأ بالمآسي، فيسهر ويرقص ويغني، ولو تحت القصف؟ فثقافتنا ثقافة حياة ورجاء، ونحن تليق بنا الحياة…
ماذا أفعل يا وطني إن كنتُ مُعجبًا بطموحات شبابك الذين ينهلون العلم، ويُبدعون أينما كانوا في العالم، ويتصدّرون أعلى المراكز والمناصب، ليصنعوا شعبًا عبقريًّا لا تغيب عن رقعة انتشاره الشمس؟
سافرتُ يا وطني بعيدًا عنك. حاولتُ أكثر من مرة أن أهجرك، غادرتُ إلى أبعد قارة في العالم اكثر من مرة، حيث لي أهلٌ وأنسباء وأصدقاء… لكن بقدر ما كنتُ أبتعد، كنتُ أقترب منك أكثر فأكثر، وكأنك قدري… فأعود إليك حاملًا ألم الغربة والفِراق، وأنا مشتاق إلى كل حبّة تراب منك، إلى كل نسمة هواء… وحين أعود إليك، تعود إليَّ الحياة.
كان بإمكاني أن أهاجر كما فعل ويفعل اليوم الكثيرون من أبنائك، وأكون في حالٍ أفضل بكثير… لكن لم أتمكن من اتخاذ هذا القرار. خذلتني عواطفي وذكرياتي وتعلّقي بجذورك. وحتى الآن، لم أتمكن من فكّ هذا اللغز الكبير الذي يربطني بك… فهل وصل حبي لك إلى حدّ الهذيان والجنون؟
ربما ما زالت عالقة في ذهني أساطير الجدود في الدفاع عن هذه الأرض المباركة، وتضحياتهم من أجل أن يبقى لنا هوية وكيان وانتماء. ربما ما زلتُ متعلّقًا بالتراب الذي احتضن الأهل. ربما هي رائحة الأرض المجبولة بدماء الشهداء وعرقهم وتضحياتهم، كي لا نصبح أغرابًا على أرضنا. وربما هو الصمود والتحدّي بوجه المحن، وهذا قدرنا عبر التاريخ، وجهادنا اليومي بانتظار انبلاج فجرٍ جديد…
بيني وبينك يا وطني حكاية عشقٍ عمرها منذ تفتّحت عيناي على الحياة، ولم تتمكن كل المحن والصعاب والخيبات، منذ 13 نيسان 1975 حتى اليوم،ورغم مرارة الايام التي عشتها وقساوتها، من النيل من عشقي لك، أو أن تُشعرني بالندم لأنني وُلدت فيك…
ما نفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه؟ هكذا قيل. وأنا أعلم أنه، بفضل جنوني بك، ربما خسرتُ العالم من أجلك… لكن ربحتك، وربحتُ نفسي!

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى