
في عالمٍ تتسارع فيه التغيرات وتتشابك فيه التحديات، لم تعد الأدوات التقليدية للقيادة كافية. الواقع الجديد يتطلب من القادة أن يكونوا أكثر من مجرّد أصحاب قرارات؛ أن يكونوا مفكرين استراتيجيين، ومستفسرين دائمين، ومتواصلين بمن حولهم، ومتصلين بالواقع، ومدركين لما حولهم من أنظمة متداخلة.
في ظل صعود الذكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence)، والتحولات الرقمية، والأزمات العالمية المتكررة، تظهر الحاجة إلى نماذج جديدة من التفكير، قادرة على التعامل مع الواقع لا عبر تجزئته، بل من خلال فهمه كنسيج متكامل. وهذا يستدعي امتلاك مهارات جوهرية مثل: الاستفهام التحليلي (Critical Inquiry)، والتفكير المنظوماتي (Systems Thinking)، والوعي المنظوماتي (Systems Awareness)، والإنصات العميق (Deep Listening)، والقيادة التكيفية (Adaptive Leadership).
أولًا: من حلّ المشكلات إلى إعادة صياغتها
في عالم معقّد، لا يكفي أن نبحث على حلّ للمشكلات؛ بل علينا أن نُعيد صياغتها. فطريقة فهمنا للمشكلة تُحدد نوع الحلول التي سنبحث عنها. لهذا، يعتبر الانتقال من حلّ المشكلات (Problem-Solving) إلى صياغة المشكلات (Problem-Framing) تحولًا مفصليًا في طريقة التفكير القيادي.
القادة الذين يتمتعون بالبصيرة لا يكتفون بالإجابة، بل يطرحون الأسئلة التي تكشف الافتراضات الخفية، وتفتح آفاقًا جديدة للفهم. هذا النوع من الأسئلة، الذي يُسمى “الأسئلة التحفيزية” أو Catalytic Questions، ليس فقط مفيدًا للحل، بل يُشكّل أساسًا لثقافة التعلّم والنمو داخل الفريق أو المؤسسة.
ثانيًا: التفكير المنظوماتي (Systems Thinking) – رؤية أشمل للواقع
التفكير المنظوماتي ليس مجرد أداة لتحليل العلاقات، بل هو عدسة جديدة لرؤية العالم. هو القدرة على تجاوز التفاصيل المعزولة وفهم كيف تتفاعل الأجزاء ضمن الكل.
فعندما نفهم أن انخفاض أداء فريق ما ليس ناتجًا فقط عن ضعف التدريب، بل أيضًا عن تداخل في الأدوار والصلاحيات والمهام، أو غموض في الرسالة، أو توتر في العلاقة مع الإدارات الأخرى، عندها فقط نبدأ بالاقتراب من ايجاد الحل الحقيقي.
التفكير المنظوماتي يُمكّن القادة من:
إدراك حلقات التأثير المتبادل (feedback loops)
التمييز بين الأسباب الجذرية والأعراض
تحديد نقاط التدخل عالية التأثير (leverage points)
تصميم استراتيجيات تستند إلى فهم البنية لا إلى الحدس أو الانطباع
إنه تفكير يتعامل مع الزمن، والترابط، والتشابك، والتعقيد الديناميكي—not just complexity, but dynamic complexity.
ثالثًا: القيادة التكيفية كأداة للاستمرار والتقدم وسط الضبابية وعدم اليقين
نعيش في عالم لا يكافئ الثبات، بل يكافئ القابلية للتكيّف، وسط الكثير من الضبابية (Ambiguity) وعدم اليقين (Uncertainty). في هذا السياق، لا يُطلب من القادة فقط أن يعرفوا مسبقًا، بل أن يتعلّموا أثناء الفعل والتنفيذ، ويعيدوا النظر في قراراتهم، ويتبنّوا تفكيرًا تجريبيًا.
في مواجهة التشابك وتعدد المتغيرات، لم يعد دور القائد يقتصر على إعطاء الأوامر أو اتخاذ قرارات سريعة. بل بات من الضروري أن يتمتع القائد بقدرة على التكيف، والتأمل، وتوجيه الفرق نحو التعلّم الجماعي والتجريب الواعي.
القيادة التكيفية تعني القدرة على:
إدارة المجهول بلا خوف
إصغاء فعّال لتعدد وجهات النظر
التفاعل مع التغيير لا مقاومته
إعادة بناء النماذج الذهنية عند الضرورة
هذه القيادة ليست ارتجالية، بل تعتمد على مرونة ذهنية عالية، وثقة مستندة إلى القيم، لا إلى السيطرة. وهي قيادة حوارية، لا سلطوية، تبني علاقاتها على الانفتاح والتعلّم.
القيادة التكيفية (Adaptive Leadership) تتطلب وعيًا للذات، وانفتاحًا على المجهول، وقابلية لتغيير النماذج الذهنية عند الضرورة. في هذا السياق، يصبح دور القائد ليس فرض وجهة نظر معينة، بل التنسيق بين وجهات النظر المتنوعة وتوجيه الحوار باتجاه الحلول.
رابعًا: تعددية وجهات النظر والإنصات العميق التحويلي
أحد أكبر الأوهام في البيئات التنظيمية هو الظن بأن الرأي “الأصح” هو ما يصدر من الأعلى. الواقع أن القيمة الحقيقية تنبع من تعددية وجهات النظر، ومن القدرة على دمجها لبناء فهم أوسع وأكثر شمولية.
الإنصات العميق (Deep Listening) هنا لا يعني مجرد الاستماع، بل الإنصات التحويلي (Transformational Listening)، ذلك النوع من الاستماع الذي يغيّر طريقة فهمنا للمشكلة أو للرأي الآخر. وهو الذي يُمهّد الطريق أمام التعاون الحقيقي، وابتكار حلول تتجاوز ما يراه كل طرف بمفرده.
عندما تُبنى القرارات على قاعدة من وجهات نظر متعددة، تُصبح أكثر مرونة، وتتمتع بشرعية أقوى، وتُظهر عمقًا يعكس تعقيدات الواقع نفسه.
خامسًا: مناهج تفكير تدمج الذكاء الاصطناعي ولا تخضع له
في ظل الانتشار الواسع للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي التوليدي، أصبح من السهل الانبهار بقدرته على توليد الأجوبة. لكن ما لا تستطيع التكنولوجيا فعله هو طرح الأسئلة الصحيحة، أو فهم السياق، أو إدراك البُعد الأخلاقي للقرارات.
هنا تبرز أهمية أن نُدرّب أنفسنا على التفكير المتكامل مع الأدوات الذكية، لا على التفكير التابع لها والمسلّم بشكل أعمى لها. وهذا يتطلب:
فهم آليات الذكاء الاصطناعي وحدوده وانحيازاته
استخدامه كوسيط للابتكار، لا كبديل عن التفكير
الحفاظ على البُعد الإنساني والأخلاقي في اتخاذ القرار
بكلمات أخرى: التكنولوجيا تُنتج الإجابات، أما نحن فعلينا أن نُعيد اكتشاف الأسئلة.
سادسًا: تطبيقات في قطاعات التربية، والثقافة، والإدارة العامة
في التربية:
المعلمون والقادة التربويين الذين يتبنون هذه المهارات لا يقومون فقط بنقل المعلومات، بل يدربون على كيفية التفكير، وربط المفاهيم المتعددة، وفهم العلاقات بين الأجزاء. إنهم يربّون أجيالًا قادرة على التعامل مع الواقع كتفاعل مستمر لا كحقائق جامدة.
في المؤسسات الثقافية:
الثقافة ليست رفاهية، بل هي منظومة تصوغ القيم والهوية. والتفكير المنظوماتي المنهجي يُمكّن المؤسسات الثقافية من تصميم برامج أكثر تفاعلًا وتأثيرًا، تأخذ في الحسبان البنية المجتمعية، والعلاقات التاريخية، والديناميات النفسية والاجتماعية.
في الإدارة العامة والقيادة المنتخبة:
هنا تصبح القدرة على التفكير المنظوماتي ووعي العلاقات المتشابكة أمرًا مصيريًا، خاصة مع احتمال تفاوت مستوى ومقاربات الأشخاص المنتخبين، مما قد ينتج فرقًا غير منسجمة بالضرورة.
القادة القادرون على فهم كيف تؤثر قراراتهم على المدى البعيد، وعلى قطاعات متعددة، هم من يُحدثون تغييرًا مستدامًا. فيكون لزامًا على المسؤولين بالتالي، أن يدركوا العلاقات المتشابكة بين السياسات، والأفراد، والمجتمع.
القيادة الجيدة في هذا السياق تتطلب وعيًا لكامل المنظومة وعملها، وقدرة على توجيه الفرق ضمن شبكات معقدة من التأثير والتأثر.
نحو معرفة قيادية جديدة
لم يعد كافيًا أن نمتلك شهادات أو نُتقن أدوات التحليل. العالم اليوم يتطلب منا نوعًا جديدًا من المعرفة: معرفة قيادية (Leadership Literacy) قادرة على الربط بين الفهم العميق، والتحليل المنظوماتي المنهجي، والحسّ الإنساني الأخلاقي العقلاني.
القيادة في القرن الحادي والعشرين لا تُقاس فقط بالإنجازات، بل تُقاس بمدى قدرتها على احتضان التعقيدات، والتعامل مع عدم اليقين والضبابية، وتوجيه الحوار، وصياغة مستقبل تشاركي.
فليست القيادة بالبصيرة مجرد مهارة. إنها نمط وعي وتفكير، ومقاربة حياتية ديناميكية، وأسلوب جذري في التغيير.
* خبير في الشؤون التربوية ورئيس مجلس إدارة Global Education