Australiaثقافة وحوار

الأديب الدكتور جميل الدويهي يكتب عن “الانزك داي” استراليا

دور القوات الأسترالية في الحربين العالميتين الأولى والثانية

 

حاربت القوّات الأستراليّة في لبنان في الحربين العالميّتين: الأولى والثانية من ضمن القوّات البريطانيّة، فقد كان الجنود الأستراليّون، والنيوزيلانديّون، والهنود يُعتبرون جنوداً بريطانيّين، لأنّ الدول التي ينتمي إليها هؤلاء الجنود، كانت إمّا محتلّة من قبل بريطانيا، كالهند مثلاً، أو تدور في فلك التاج البريطانيّ، كأستراليا ونيوزيلاندا.
وعلى الرغم من استقلال أستراليا، وإعلانها كدولة موحّدة في عام 1901، وبُعدها الجغرافيّ عن بريطانيا، فإنّها ظلّت تعتبر نفسها تابعة للعرش البريطانيّ، وما تزال ملكة بريطانيا، حتّى اليوم، تعيّن الحاكم العامّ في أستراليا.
وعند اندلاع الحرب العالميّة الأولى، كانت أستراليا تعتمد بشكل أساسيّ على الاقتصاد البريطانيّ، وكانت المملكة المتّحدة الإنكليزيّة أكبر شريك تجاريّ لأستراليا، وتحظى بريطانيا حتّى اليوم، بعطف كبير في المجتمع الأستراليّ، المتحدّر بأغلبه من أصول إنكليزيّة، فإنكلترا هي البلاد الأمّ التي تحدّر الأستراليّون البيض منها(1).
فليس مستغرباً إذاً أن يتجاهلَ المؤرِّخونَ المعالمَ التفصيليّة لدور أستراليا العسكريّ، في الحربين العالميّتين الأولى والثانية، لاعتقادِهم أنَّ الجنود الأستراليِّين الذين شاركوا في هاتين الحربين كانوا بريطانيِّين. ففي كتابه تاريخ لبنان الحديث يتناول كمال الصليبي معركة تحرير لبنان وسوريا في الحرب العالميّة الأولى، فيذكر أنّ ثورة الشريف حسين نجحت في الحجاز، وكانت قوّاته تحمي ميمنة القوّات البريطانيّة في زحفها البطيء عبر فلسطين، “وسقطت سوريا كلها بنهاية الشهر التالي في قبضة البريطانيّين… وفي اليوم ذاته الذي دخل فيه فيصل دمشق، انهارت السلطة العثمانيّة في بيروت.”(2) ولا يذكر الصليبيّ شيئاً عن دور القوّات الأستراليّة في معارك لبنان وسوريا.
ويحذو محمود خليل صعب حذو الصليبيّ في إغفاله ذكر القوَّات الأستراليّة، في سياق تأريخه للحرب العالميّة الأولى، فيذكر أنّه “في أواخر أيلول من سنة 1918، انهارت الجبهة التركيّة- الألمانيّة في سوريا أمام الإنكليز القادمين بطريق فلسطين، بقيادة الجنرال اللنبي، والعرب القادمين بطريق شرقي الأردن بقيادة الأمير فيصل بن الحسين، فأوقف الأتراك القتال، وأخذوا في الانسحاب شمالاً نحو بلادهم”(3).
وفي كتابه من الاحتلال إلى الجلاء 1918-1946 يقول علي عبد المنعم شعيب، في معرض حديثه عن الهجوم العسكريّ للقوّات الحليفة على سوريا ولبنان، خلال الحرب العالميّة الثانية: “في صباح 8 حزيران، اجتازت الجيوش الفرنسيّة الحرّة، والبريطانيّة الحدود السوريّة اللبنانيّة”.(4). ولا يذكر شعيب أيَّ دور للجنود الأستراليّين، الذين كانوا ينضوون مع زملائهم النيوزيلانديّين في قوّات “الأنزاك” من ضمن القوّات الحليفة .
ولسنا في وارد النقد لمثل هذه المعلومات، التي أوردها المؤرّخون تعميماً لا تفصيلاً؛ على أساس أنّ ملامح الدور الأستراليّ ضاعت في خضمّ القوميّات المتعدّدة التي تكوّنت منها إمبراطوريّة بريطانيا العظمى. ولكنّنا سنحاول في بحثنا، إلقاء الضوء على إسهام الجنود الأستراليّين، أو “الحفّارين” (Diggers)، كما يُطلَق عليهم تحبُّباً في أستراليا، في الحربين العالميّتين: الأولى والثانية، علّنا نوضح التفاصيل الممكنة عن تلك المساهمة، ونفتح الباب لمزيد من الدراسات المعمّقة في هذا الموضوع.
القوّات الأستراليّة في الحرب العالميّة الأولى:
من بين اللوحات التذكاريّة المحفورة على صخور نهر الكلب، لوحة تؤرّخ لمرحلة الحرب العالميّة الأولى (1914-1918). وذُكرت في اللوحة القوّات الأستراليّة، والنيوزيلانديّة، والهنديّة، والفرنسيّة، والقوّات العربيّة التابعة للشريف حسين. وهذه القوّات مجتمعة شاركت في معركة تحرير لبنان من القوّات العثمانيّة، والقوّات الألمانيّة.
والجدير بالذكر أنّ الجنود الأستراليّين والجنود النيوزيلانديّين، حاربوا معاً تحت اسم الأنزاك (ANZAC). وتحتفل الدولتان المتجاورتان بيوم الأنزاك، في الخامس والعشرين من نيسان كلّ عام، كأهمّ مناسبة وطنيّة.
ومن الواضح تماماً أنّ قوّات “الأنزاك” كان لها دور كبير في محاربة العثمانيّين، وإجلاء قوّاتهم عن لبنان وسوريا، من ضمن خطّة شاملة، وضعها الجنرال البريطانيّ الفذّ إدموند اللنبيEdmond Allenby للسيطرة على مصر، فلسطين، الأردنّ، لبنان وسوريا. وكان المجاهدون العرب، التابعون للشريف حسين، يتقدّمون القوّات المُهاجمة، وهي في طريقها إلى دمشق. فبعد تحرير مصر، وفلسطين، والأردنّ، وصلت قوّات التاج البريطانيّ إلى العاصمة السوريّة، في مطلع تشرين الأول من عام 1918. ووصلت قوّات أخرى عن طريق الساحل الشرقيّ للبحر المتوسّط، إلى بيروت(5).
ولم تكن معركة لبنان وسوريا سهلة، بالنسبة للقوّات المُهاجِمة، بسبب وعورة المسالك، خصوصاً في المناطق الجبليّة، واتّساع رُقعة القتال، في منطقة جغرافيّة حارّة المناخ، تمتدّ من فلسطين إلى الحدود التركيّة في الشمال، ومن ساحل البحر الأبيض المتوسّط إلى العراق. وقد أخذ الجنرال اللنبيّ ظروف المعركة، وطبيعة الأرض في حساباته، معتمداً على شخصيّته العسكريّة القويّة، وفكره الخلاّق، فحشد 12000 عنصر من الخيّالة، و57000 عنصر من المشاة، و500 مدفع، وسبع وحدات من الطيران.
وكانت الخطّة تعتمد على النوعيّة العالية للأستراليّين والنيوزيلانديّين(6)؛ وهؤلاء كانوا يندفعون بجرأة إلى الخطوط الأماميّة، ويقيمون المتاريس، ويتقنون ركوب الخيل والمناورة. وقد رأى الجنرال اللنبي، بعد هزيمة الجيش العثمانيّ في فلسطين، في أواخر أيلول عام 1918، أنَّ من المفيد له الاعتماد على مجموعة قتالية أستراليّة، هي فرقة الخيّالة الأستراليّة “Australian Mounted Division”. وكانت هذه المجموعة تستخدم في أصعب المهامّ العسكريّة، فرجالها من سكّان البراري الأستراليّة، وقد حاربوا فيما بعد في معركة غاليبولي الشهيرة ضدّ العثمانيّين(7). وكان يقود هذه المجموعة الليوتنانت جنرال هاري شوفيل .Harry Chauvel
وخاض الجنود الأستراليّون معارك صعبة في مرجعيون، جزّين، والدامور. وصولاً إلى بيروت، لكنّ الحملة الأساسيّة كانت تتركّز على دمشق. وقد عبرت القوّات الحليفة الحدود الفلسطينيّة- السوريّة بعد تحرير مصر، وفلسطين والأردن، وضيّقت الخناق على مدينة دمشق، حيث كان يتمركز حوالي عشرة آلاف من الجنود العثمانيّين، بإشراف مستشارين ألمان. وقد ساعد المقاتلون العرب القوّات الحليفة، ومهّدوا لهم السبيل لمحاصرة المدينة، وكان السكّان في سوريا ولبنان، يأملون في أن ينتهي الحكم العثمانيّ في أقرب وقت، وتنتهي معه حقبة مريرة من التعسّف، والمجاعة، والفقر المدقع. ويصف الجنديّ الأستراليّ غرانفيل رايري Granville Ryrie حالة الناس في عام 1918، فيقول: “إنّ الشعب السوريّ هنا يعاني من المجاعة الفادحة. الناس يتضوّرون جوعاً، ويقولون إنّ حوالى 250000 نسمة قد ماتوا بسبب قلّة الطعام. وفي الوقت نفسه، فإنّ الطقس بارد، والشتاء قد بدأ، ويمكن رؤية الكثيرين من الأطفال الصغار في الخارج، وعلى ظهورهم بُسُط ممزّقة… والعثمانيّون لم يُظهروا لهم الرحمة، فقد صادروا كلّ شيء من البلاد(8).
وفي اليوم الأوّل من تشرين الأوّل، سقطت دمشق، وكان أمام الجنود العثمانيّين طريقان للهرب: الأولى باتّجاه رياق في البقاع، حيث كانت للألمان قاعدة جوّيّة مهمّة، والثانية باتّجاه حمص. وكان عدد الجنود العثمانيّين قد بلغ حوالي سبعة آلاف، بعد مقتل وجرح الكثيرين، ووقوع آخرين في الأسر. وقد ارتأى الجنرال اللنبي إقفال طريق حمص، فتوجّهت مجموعة من لواء الخيّالة الأستراليّ الثالث “3d Australian Horse Brigade” للقيام بالمهمّة على أكمل وجه.
وكان المستشار العسكريّ الألمانيّ ليمان فون ساندرز Liman Von Sanders موجوداً في لبنان، حيث اتّخذ مقرّاً له في بلدة رياق البقاعيّة، منذ التاسع والعشرين من أيلول عام 1918، ومن هناك أدرك أنّه ليس في موقع جيّد للدفاع عن دمشق، فقرّر إخراج القوّات العثمانيّة من العاصمة السوريّة، قبل أن تطوّقها قوّات اللنبي، وتقضي عليها نهائيّاً، على أن يعيد تجميع صفوف قوّاته في رياق (9). وبالفعل، تقهقر الجنود العثمانيّون على طريق وادي بردى- رياق، غير أنّهم وجدوا أمامهم القوّات الأستراليّة والفرنسيّة، فعادوا باتّجاه دمشق، ليواجهوا مصير القتل أو الاستسلام.
ويذكر المؤرّخ تشارلز بِين Charles Beanتفاصيل تلك المرحلة من الحرب، فيقول: إنّ الأعداء (ويقصد العثمانيّين) كانوا قد فقدوا معنويّاتهم العسكريّة بشكل كبير، بينما كانت القوّات الأستراليّة تطلق النار عليهم من الخلف. وتحوّل الجنود الأتراك إلى وادي نهر بردى، ليسلكوا طريق بيروت. وكان الجنود الفرنسيون متمركزين على التلال المجاورة، فراحوا يطلقون النار على رؤوس الجنود المنسحبين. بينما كان عدد من الخيّالة الأستراليّين، بقيادة الميجر جنرال أوليفر هوغOliver Hogue ، قد تحصّنوا في منزل صغير داخل الوادي، فأخذوا يطلقون النار من مسافة قريبة على الجنود العثمانيّين المتضعضعين(10).
وبعد دمشق، سقطت حمص وحلب، وحُسمت معركة سوريا في خلال 12 يوماً فقط، تقدّمت فيها القوّات الحليفة أكثر من 400 ميل، واعتقلت أكثر من 47000 جنديّ من الأتراك، والألمان، والنمساويّينن والهنغاريّين. وأسرت فرقة الخيّالة الأستراليّة “Australian Mounted Division” وحدها أكثر من 31000 جنديّ.
ومن الواضح تماماً أنّ معركة دمشق، فتحت الباب أمام هزيمة الجيش العثمانيّ في لبنان، فقد وصلت القوّات الحليفة في السادس من تشرين الأوّل إلى صور، ثمَّ “رست أمام مرفأ بيروت المدرّعات والبواخر، فخرجت منها إلى البرّ الجيوش الفرنسيّة بوافر عتادها، بينما كانت القوّات البريطانيّة تواصل سيرها ببطء، وفي فترات متقطّعة على الساحل اللبنانيّ إلى طرابلس”(11)، واحتلّت القوّات الحليفة صيدا في اليوم التالي(12).
ويصف المؤرّخ بين Bean عمليّة تحرير لبنان من الأتراك، فيقول إنّ اللنبي وشوفيل اتّفقا على السير نحو سهل البقاع من جهة الشرق، لمهاجمة رياق، وكانت تلك البلدة البقاعيّة نقطة التقاء الخطّ الحديديّ الذي يربط بين البوسفور ودمشق وبيروت. وكان عدّة آلاف من الجنود العثمانيّين والألمان متمركزين في رياق. وشارك في الهجوم الجنود الأستراليّون بمدرّعاتهم وآليّاتهم. وانسحب الأعداء من رياق باتّجاه الشمال، بعد أن أحرقوا 30 طائرة، وكمّيّات كبيرة من المعدّات، لكنّهم خلّفوا وراءهم كثيراً من المعدّات والذخائر بحالة جيّدة(13). وفي 7 تشرين الأوّل، أبلغ المُخبرون القيادة البريطانيّة أنّ الأعداء انسحبوا من بيروت، ودخلت على الفور سفن حربيّة فرنسيّة إلى ميناء بيروت. وفي التاسع من تشرين الأوّل دخلت القوّات المدرّعة إلى بعلبكّ، فسلّمها المواطنون 500 أسير تركيّ كانوا يحتجزونهم، كما سقطت زحله بدون مقاومة. أمّا على الساحل، فقد دخلت القوّات الحليفة صور وصيدا، ثمّ بيروت حيث سلّمها السكّان 600 أسير عثمانيّ، وتابع الحلفاء سيرهم على الساحل شمالاً، فوصلوا إلى طرابلس(14).
كما يصف المؤرّخ محمّد كامل بابا تلك الحقبة، فيقول: “أمطرت الطائرات البريطانيّة يوم 29 أيلول 1918 قنابلها على مستودعات محطّة رياق، نقطة اتّصال الجنوب بالشمال، ونهب ملحم قاسم من أهالي بعلبك أنابير رياق وحوش تعلا، في جماعة من رجاله، فنسف الألمان ما بقي من المؤن والعتاد في المستودعات والأنابير، وانهزموا في السكّة الحديديّة إلى الشمال، ولم يمكِّنوا أحداً من الترك الركوب معهم، فنجوا بأنفسهم باستعمال الشدّة. وفي ذلك الحين، قذف الألمان في بيروت المؤن والموادّ الحربيّة في البحر، وأصلاهم الحلفاء ناراً حامية خلال هزيمتهم. ولم تنفعهم وتنفع الأتراك خطوط الدفاع التي كانوا جعلوها في الجبال المطلّة على بيروت… ولم يجرِ استيلاء الحلفاء على بيروت إلا يوم 7 تشرين الأول، أي بعد سقوط دمشق بثمانية أيّام… وفي يوم 8 تشرين الأول 1918، دخلت الجيوش البريطانيّة طرابلس، وهي مؤلفة من الأستراليّين والهنود والمصريّين، ومعهم فرقة إفرنسيّة، فاستقبلتهم الأهالي ولا سيّما الطوائف المسيحيّة بالتصفيق. وكنت واقفاً أشهد دخولهم بنفسي”(15).
وشارك الطيران الأستراليّ، إنطلاقاً من مصر، في معارك سوريا ولبنان، سواء في عمليّات المراقبة أو القصف الجوّيّ. ولم تكن الطلعات الجوّيّة للطيّارين الأستراليّين سهلة، فقد كانت الطائرات الألمانيّة نشطة في المنطقة، وكان تقدّم القوّات الحليفة في لبنان وسوريا يتعرّض للإعاقة، بسبب عمليّات القصف المستمرّة التي كان يقوم بها الطيّارون الألمان(16).
وكان على المقاتلات الأستراليّة، وهي من طرازات BE 2, Re 8, Martinsyde G 102 و Bristol F.2 أن تحلّق فوق منطقة واسعة جدّاً تمتدّ على مسافة تفوق 600 ميل في بعض الأحيان. وقام الطيّارون الأستراليّون بعمليّات استطلاع واسعة فوق رياق، حمص، بيروت، طرابلس، حماة وحلب. وقصفوا قاعدة رياق، التي كانت مركزاً دفاعيّاً قويّاً للألمان، فدمّروا العديد من الآليّات الحديثة، وترك الألمان الآليّات الأخرى مهجورة في ساحة القتال(17).
ومن المفيد الإشارة إلى أنَّ اللبنانيّين، ساعدوا القوّات المتقدِّمة على الجبهات، وإن بصورة عفويّة. وقد ذكرنا سابقاً أنّ السكّان سلّموا في بعلبك القوّات الحليفة 500 أسير كانوا القوا القبض عليهم، كما سلّموها في بيروت 600 أسير. ويذكر العقيد الركن جورج فغالي أنّ عدد الأسرى العثمانيّين الذين سلّمهم الأهالي في بيرت بلغ 660 أسيراً، من بينهم 60 ضابطاً(18). وكان الأهالي يطلقون على الجنود العثمانيّين الهاربين اسم “عسكر الفرار”. وفي بعقلين كان المواطنون يترصّدون لهؤلاء الجنود، ويتصدّون لهم، ويتعقّبونهم، وينتزعون منهم ما يحملونه من السلاح والذخيرة(19).
وفي الشويفات، اجتمع الناس في ساحة السرايا، وأضيئت الفوانيس والمشاعل، ووقف الأمير أمين مصطفى أرسلان يحضّ المواطنين على قطع الطرق على العثمانيّين الفارّين، وسار أمام الجمهور إلى أعالي كروم الشويفات، حيث كان العثمانيّون قد حفروا خنادق. وعند وصول الناس إلى هناك أخبرهم بعض المارّة بأنّ شرذمة من الجنود الأتراك يسيرون على طريق بيروت – صيدا، ومعهم جِمال وبغال وذخائر، فهجم أهالي الشويفات على الطريق، وأطبقوا على الجنود الأتراك من كلّ الجهات، ولم يكن عدد الجنود يزيد على الثلاثين، فاستسلموا دون أيّة مقاومة(20).
وقد وقعت مصادمات بين السكّان والجنود الفارّين، فوقع قتلى وجرحى من الطرفين. “وفي عاليه وصوفر ورياق لم يتصدّ أحد لمواجهة الجند كما فعل أهالي الشويفات… لكنّ مستودعات الأسلحة كانت في صوفر، فما إن عبر الأتراك المنطقة، حتّى وفد أهالي الجرد وقبيع، ودهموا المستودع، وكان على بابه حارس تركيّ يدعى محمّد أمين. ولا ندري كيف بقي هذا الجنديّ قائماً على الحراسة بعد انسحاب الجيش، وقد أصرّ هذا الرجل الشجاع على القيام بواجبه، فقتله الأهلون”(21).
وتتحدّث المصادر المتفرّقة أيضاً عن دور محدود لفرقة الشرق، التي تأسّست في عام 1916 من لبنانيّين وسوريّين وأرمن، في مساعدة القوّات الحليفة، وقد خاض عناصر هذه الفرقة، وأغلبهم من المغتربين، معركة نابلس في فلسطين، في 19 أيلول 1918. واضطلع الجنود اللبنانيّون بدورهم في عمليّات الإنزال الحليف على السواحل اللبنانيّة، وشاركوا في احتلال مرفأ بيروت(22).
ويذكر يوسف الحكيم أنّ القوّات الأستراليّة بقيت في لبنان حتّى أوّل تشرين الثاني من عام 1919. فقد اتّفقت الحكومتان الفرنسيّة والبريطانيّة على سحب القوّات البريطانيّة لتحلّ محلّها قوّات فرنسيّة، على أن يبقى الجيش البريطانيّ في فلسطين والعراق(23)، لكنّ الجنديّ الأستراليّ غرانفيل رايري ذكر في رسالة بعث بها إلى أستراليا، في 12 كانون الثاني 1919، أنّه كان في طرابلس، وقام برحلة إلى بعلبك، حيث التقط أربع صور للآثار الموجودة هناك، ومن بعدها زار دمشق، ولم يكن يحمل مسدّساً في رحلته(24)، وهذا يدلُّ بوضوح على فترة من الاستقرار السياسيّ والأمنيّ التي عاشها لبنان في تلك الحقبة من التاريخ.
والواقع أنّ الجنود الأستراليّين أنشأوا معسكرات في العديد من المناطق اللبنانيّة، ومنها طرابلس، ورياق، وبعلبكّ، والصرفند. فقد أقام الجنود الأستراليّون من فرقة الخيّالة الأستراليّة “Australian Mounted Division” في طرابلس معسكراً مريحاً، ومجهّزاً بعناية، وأعدَّت لهم وسائل ترتيبات العودة إلى أستراليا(25).
ولم تخلُ فترة وجود الجيش الأستراليّ في لبنان من اضطرابات ومواجهات مع بعض السكّان، خصوصاً في بلدة الصرفند الجنوبيّة، حيث كان يوجد ثلاثة مخيّمات للجنود الأستراليّين. وكانت تقع خلافات بين هؤلاء الجنود والمواطنين المحلّيّين، بسبب قسوة المعاملة التي كانت تبديها القيادة البريطانيّة تجاه السكّان، وكان أهل البلدة لا يميّزون بين جنديّ أستراليّ أو نيوزيلانديّ، وآخر بريطانيّ. وقد قُتل بضعة رجال من فرقة خيّالة الأنزاك“Anzac Mounted Division” على أيدي السكّان بإطلاق النار عليهم، كما أنّ الجنود الأستراليّين كانوا يفقدون بعض الأغراض من خيامهم، فيعتقدون أنّهم تعرّضوا للسرقة من قبل السكّان. وفي إحدى المرّات، استيقظ واحد من الجنود النيوزيلانديّين، فوجد رجلاً يحمل كيساً في خيمته، فراح يطارده، حتّى وصلا إلى التلال الرمليّة خارج المخيّم، فأطلق الرجل الهارب النار، وقتل الجنديَّ النيوزيلانديّ. وقام الجنود النيوزيلانديّون، ومعهم نفر من زملائهم الأستراليّين، بمحاصرة الصرفند، وطلبوا من المشايخ تسليمهم القاتل، فلم يلقوا آذاناً صاغية، فاقتحم الجنود البلدة، وأخرجوا النساء والأطفال، ثمّ انهالوا بالضرب على الرجال، وأحرقوا البيوت، فقُتل العديد من العرب، وفرّ الباقون. ثمّ أحرق الجنود مخيّماً للعرب الرُّحَّل خارج الصرفند، قبل أن يعودوا إلى معسكرهم. وأثار ذلك السلوك حفيظة القيادة الحليفة، لكنَّ الجنود الأستراليّين والنيوزيلانديّين رفضوا تسليم أيّ زميل لهم للمحاكمة. وعلى الرغم من غضب اللنبي، فإنّ أيّ إجراء عقابيّ لم يُتخذ بحقّ أولئك الجنود(26).
ولسنا نعرف بالضبط عدد الجنود الأستراليّين الذين قتلوا أو جُرحوا في لبنان، لكنّ الأرجح أنّ هذا العدد قليل جدّاً، فقد قُتل من الجنود الأستراليّين، في الحرب العالميّة الأولى، في الشرق الأوسط 1394 جنديّاً، من أصل حوالي 60000 جندي خسرتهم أستراليا على جبهات القتال، وفي معركة احتلال دمشق قتل 21 جنديّاً، وجُرح 17 فقط.
القوّات الأستراليّة في الحرب العالميّة الثانية:
كان لمشاركة أستراليّا في الحرب العالميّة الثانية، ضدّ قوّات فيشي والقوّات الألمانيّة في الشرق الأوسط، دور حاسم. وقد كتب رئيس الوزراء الأستراليّ روبرت منزيز إلى رئيس وزراء بريطانيا تشرشل يقول: “أليس من الممكن القيام بمحاولة لاحتلال سوريا ولبنان من قبل القوّات البريطانيّة؟ ما من شكّ في أنّ لديكم تردّداً في هذا الموضوع، بسبب التداعيات المحتملة لموقف الاميركيّين، غير أنّني متأكّد، ومن مصادر جيّدة في واشنطن أنّ الأميركيّين سيكونون سعداء من ردّ بريطانيّ قويّ”(27).
وأعرب منزيز عن استعداد بلاده للمشاركة في القتال إلى جانب النيوزيلانديّين. وأرسلت أستراليا على الفور أربع فرق إلى الشرق الأوسط. وقدّمت أستراليا أيضاً سفناً، ومجموعة من الطائرات الحربيّة لصالح القوّات الحليفة. وفي الحملة على لبنان وسوريا، كان عدد الجنود الأستراليّين 18000 جندي، إلى جانب 9000 جنديّ فقط من الجيش البريطانيّ، و 5000 جنديّ من قوّات فرنسا الحرّة التابعة للجنرال شارل ديغول، و 2000 جنديّ من الهنود. ويبدو من هذه الأرقام أنّ عدد الجنود الأستراليّين الذين شاركوا في تحرير لبنان وسوريا في الحرب العالميّة الثانية، يبلغ ضعفي عدد الجنود البريطانيّين، كما يفوق عدد الجنود البريطانيّين والفرنسيّين والهنود مجتمعين.
وفي المقابل، كانت قوّات فيشي، بقيادة هنري دانتزHenri Dentz ، تتألّف من 28000 جندي فرنسي وجزائري ومغربيّ، و 10000 مقاتل لبنانيّ وسوري، وعشرات الجراكسة والروس البيض.
بدأ الهجوم على لبنان من جهة الحدود اللبنانيّة الفلسطينيّة، وكان مطلوباً من الجنود الأستراليّين، الذين يتمتّعون بالحركة والمرونة، أن يبقوا على مرمى من الأعداء، ويعطوهم الانطباع بأنّهم يتحرّكون للهجوم. وهذا سيجعل قوّات فيشي في وضع نفسيّ متوتّر. وكان دور الخيّالة الأستراليين دوراً فائق الأهمّيّة، خصوصاً في المناطق الوعِرة.
نُفِّذ الهجوم في 8 حزيران عام 1941، بناء على خطّة وضعها الجنرال البريطاني هنري ويلسونHenry Maitland Wilson . وتقضي هذه الخطّة بمهاجمة لبنان من ثلاثة محاور: 1- المحور الساحليّ: انطلاقاً من الحدود اللبنانيّة وصعوداً على طول الطريق الساحليّ اللبنانيّ باتّجاه الشمال، مدعوماً بأسطول بريطانيّ كبير، مؤلّف من طرّادين وعشر مدمّرات. وقد قادت الهجوم في هذا القطاع الفرقة الأستراليّة التاسعة بقيادة الجنرال جون لافاراكJohn Lavarack ، وهدفها بيروت.
2- محور مرجعيون- رياق – بعلبكّ: قاد الهجوم على هذا المحور لواء أستراليّ من الفرقة التاسعة، وكردوس مدرّعات بريطانيّ، بهدف احتلال رياق ثمّ بعلبكّ.
3- محور ثانويّ على تفرّع مرجعيون- جزّين(28).
ودُعيت الحملة باسم “المُصدِّر” “Exporter”. وقد كُلّف اللواء الأستراليّ الحادي والعشرون “21 Australian Brigade”بالقتال على الخطّ الساحليّ، وأوكِل إلى اللواء الأستراليّ الخامس والعشرون “25 Australian Brigade” مهمّة التوجّه إلى رياق، للسيطرة على المطار والطريق الدوليّة، وأوكلت إلى القوّات الهنديّة والأستراليّة، وقوّات فرنسا الحرّة مهمّة احتلال دمشق.
كان الصيف على الأبواب، والطقس حارّاً. وكانت المعركة الأولى في بلدة الناقورة، حيث عبر الجنود الأستراليّون الحدود في مجموعات صغيرة، وتسلّلت إحدى المجموعات إلى الطريق شمال رأس الناقورة. وتسلّلت مجموعة أخرى من 18 رجلاً وأربعة أدلاّء، إلى شمال رأس البيّاضة. وتصدّى الفيشيّون للجنود المتسلّلين، لكنّ الأستراليّين أسكتوا المدافع، واستولوا على بعضها، كما استولوا على عدّة شاحنات كانت تسير على الطريق الساحليّ، وأخذوا من فيها أسرى، كما أسروا في بلدة الناقورة نفسها 65 جنديّاً فرنسيّاً.
ودارت معارك في داخل الجنوب، بين التلال الوعرة والصخريّة، التي يسهل الدفاع عنها، ولكنّ هذه الصخور لم تقف عائقاً أمام الجنود الأستراليّين القادمين بأغلبهم من البراري الأستراليّة. وأبدى الجنود الأستراليّون بسالة نادرة في معارك اللبونة، علما الشعب، الخيام، عيترون، يارون، بنت جبيل، عين إبل، وتبنين، فيما كانت السفن البريطانيّة، والطائرات الفرنسيّة والأستراليّة تقصف المواقع الفيشيّة حول مدينة صور، وقرب نهر الليطاني.
كما خاض الأستراليّون معارك حاسمة في مرجعيون وجزّين، بدءاً من اليوم العاشر من حزيران، وأسر الأستراليّون في موقع الخربة قرب مرجعيون 56 جنديّاً فيشياً، غير أنّ المواجهات في مرجعيون وجزّين لم تكن سهلة، فقد قام الفيشيون بهجوم مضاد، استعادوا فيه البلدتين، وسقط عدد كبير من الجنود الأستراليّين بين قتيل وجريح، إلاّ أنَّ القوّات الأستراليّة شنّت هجوماً آخر، فسيطرت على البلدتين من جديد. ثمّ سقطت حاصبيّا وراشيّا الفخّار، والهباريّة.
ويروي المواطن اللبناني عازار زغيب، من راشيّا الفخّار، تفاصيل مهمّة عن دخول الجنود الأستراليّين إلى البلدة، فيقول: “إشتعلت المعركة عندما هاجمت القوّات الأستراليّة البلدة من ناحية الخندق (الجنوب الغربي)، وصعدت آلياتهم عبر طريق الخلّة- كروم العين، حيث دارت معركة كبيرة عند بيت فارس علوي، أوّل البلدة، انهزم على أثرها الفرنسيّون (الفيشيّون) وهربوا مع حلفائهم… وتعرّضوا أثناء انسحابهم لنيران القوّات الأستراليّة، فقتل ثمانية من الشركس، عند محافر بيت صليبا، فيما وقع عدد لا بأس به من الفرنسيّين أسرى وقتلى، في كمين نصبه الأستراليّون للقوّات المنسحبة، عند صنوبر راشيّا الفخّار، وكان يرافق القوات الفرنسيّة المنسحبة أحد أبناء بلدة الخريبة، نمر دخل الله… أمضى الأستراليّون والإنكليز يومهم في البلدة ورحّب بهم الأهالي، أملاً بأن الحرب قد انتهت، وخصوصاً أنّهم لم يكونوا قد اعتادوا معارك الكرّ والفرّ تجري بين البيوت والمنازل، ولكن ما كادت الشمس تغرب، حتّى انسحب الحلفاء جنوباً في اتجاه بلدة الماري، وتقدّمت القوّات الفرنسيّة (الفيشيّة) لتحتل البلدة، انطلاقاً من مواقعها في بياضة حاصبيا. وبدأت القوات الفرنسيّة (الفيشيّة) فور عودتها باضطهاد الأهالي، وإهانتهم بتهمة أنّهم تعاونوا مع قوّات الحلفاء والإنكليز وساعدوهم، وكانوا السبب في هزيمة القوّات الفرنسيّة”(29).
ويبدو من كلام عازار زغيب أنّ المواطنين اللبنانيّين تعاونوا بشكل وثيق مع الأستراليّين، أثناء دخولهم إلى راشيّا الفخّار، أو انسحابهم منها بعد ذلك. وقد نكّل الفيشيّون بالأهالي، وقتلوا عدداً منهم بتهم ملفّقة، انتقاماً منهم، وأخذوا بعضهم للعمل في نبش القبور ودفن القتلى. وهرب بعض الأهالي إلى مواقع القوّات الأستراليّة في الماري والمجيديّة، ليختبئوا من أعين الفيشيّين. لكنّ التنكيل لم يدم طويلاً، فقد سيطر الحلفاء على برج الملوك، والقليعة، ومرجعيون، وأخذوا يقصفون المواقع الفيشيّة في راشيّا وحاصبيا.
وصادفت القوّات الزاحفة صعوبة في بعض الأمكنة، حيث لا يمكن للآليّات أن تتحرّك بسهولة، فظهرت على الفور مجموعة من الجنود باسم “عصابة كيلّي”، تيمّناً بالسارق الأستراليّ الشهير نيد كيلي Ned Kelly، وكانت تتكوّن من 40 خيّالاً، وقام عناصرها بعمليّات الدوريّة والمراقبة على التلال، لتسهيل حركة الآليّات(30).
وللدلالة على صعوبة المعركة في مرجعيون وجزّين، تذكر المصادر الاستراليّة أنّ ستّة جنود أستراليّين قاموا بعمليّة تسلّل، في الرابع والعشرين من حزيران 1941، قرب الموقع 1322، عند مرتفعات جزين، وقد عاد واحد منهم حيّاً، هو Vic Houldcroft. وقرّر الناجي الوحيد في اليوم التالي العودة إلى موقع المعركة، للعثور على رفاقه، فرفض القائد الميدانيّ إعطاءه الإذن بالتسلّل إلى وراء خطوط العدوّ، بسبب كثافة النيران الفيشيّة، لكنّه فيما بعد، انضمّ إلى فريق للبحث، وعاين الفريق التلال المحيطة بالموقع 1322، فوجدوا عدّة جثث، لكنّ أيّاً من الأستراليّين الخمسة لم يتم العثور عليه. وتضاربت الأخبار بشأن المقفودين، فاعتبروا أولاً جرحى، ثمّ مفقودين، ثمّ قتلى(31).
وفي أواسط حزيران، أخذ الجنرال الأستراليّ جون لافاراك القيادة من الجنرال هنري ويلسون، فقرّر أن يُركِّز هجوم القوّات الحليفة على الشريط الساحليّ، واجتياز نهر الدامور(32).
وجرت أوّل مواجهة برّيّة على الساحل قرب رأس الناقورة، حيث أُطلقت النار على الجنود الأستراليّين من أحد المباني، فسارع الأستراليّون واحتلّوه، وسمعت قوّات فيشي صوت إطلاق
الرصاص، فانطلقت إلى الموقع، وراحت تستهدف الأستراليّين بمدفع رشّاش، لكنّ جنديّاً أستراليّاً تمكّن من تدمير المدفع بقنبلة يدويّة، وفي ساعات قليلة، أسرَ الأستراليّون مئة جنديّ، واحتجزوا ستّ آليّات وأكثر من ثلاثين حصاناً(33).
وعمد الفيشيّون إلى تدمير جسر الليطانيّ، في محاولة يائسة لوقف تقدّم القوّات الزاحفة. واعتمدت القوّات الحليفة على عمليّة إنزال من البحر لتطويق الفيشيّين، لكنّ السفينة الحربيّة البريطانيّة كارلايل Carlyleلم تتمكّن من إنزال الجنود، بسبب الرياح العاتية. وفي الليلة التالية تمَّ إنزال المغاوير، عن طريق الخطأ، قرب أحد المواقع الدفاعيّة الفيشيّة، فتضعضعت عمليّة الإنزال.
وبدا أنّ اجتياز الليطاني هو المفصل الأساسيّ للانتصار في حرب لبنان، فقرّر الجنود الأستراليّون العبور بقوارب من المطّاط إلى الضفّة الشماليّة للنهر. وقطع الأستراليّون أسلاك الهاتف عن الأعمدة، لمدّ شريط من الضفّة الجنوبيّة لليطاني إلى الضفّة الشماليّة، فيتمسّك به الجنود أثناء تجذيفهم في النهر، لئلا تجرفهم المياه.
وكانت هناك حاجة إلى متطوّع من الجنود، ليسبح إلى الضفّة الشماليّة، ويربط الشريط بجذع شجرة، فتطوّع الجنديّ الأستراليّ A.C.Haddyلهذه المهمّة، وقال إنّه الأكثر مهارة في السباحة، وما كاد يسبح أمتاراً قليلة، وهو ممسك بالشريط، حتّى سقطت بقربه قذيفة معادية، لكنّه تابع مهمّته بنجاح وهو ينزف(34).
وتبعت مجموعة من الجنود رفيقهم، وبدأ آخرون عمليّة تغطية ناريّة لزملائهم. وبعد مواجهات عنيفة، تمكّن الأستراليّون من نقل قواتهم إلى الضفّة الشماليّة للنهر، لكنّهم خسروا العديد من الجنود. وكلّفت تلك المعركة الحلفاء 400 قتيل، وسقط عدد أكبر من قوات فيشي، وأسر الاستراليّون أكثر من 100 جندي وخمسة ضبّاط فرنسيين(35).
وساعد في احتلال جسر الليطانيّ نزول قوّة أستراليّة قادمة من قبرص على الساحل اللبنانيّ، وكان عدد أفرادها 800 عنصر، احتلّوا من الخلف نقطة مساندة فرنسيّة مهمّة في القاسميّة… وتقدّم الأستراليّون شمال الليطاني بكلّ سهولة من قمّة إلى قمّة(36).
وبعد اجتياز نهر الليطاني، تداعت خطوط الدفاع الفيشيّة في الجنوب، فسقطت عدلون، أنصاريّه، الصرفند، خان سعدى، ووادي الزاهراني، بعد مناوشات متفرّقة. كما فتحت معركة الليطاني الطريق أمام القوات الحليفة، لتحاصر الدامور، ووقعت مواجهات عنيفة في ضاحيتيْ البوم، والعتيقة، القريبتين من الدامور، وسقط في تلك المواجهات 27 جنديّاً أستراليّاً، وجُرح 47 منهم.
وبقيت صيدا بعيدة عن مسرح المعارك من التاسع من حزيران حتّى الثالث عشر منه، حين تقدّمت قوّات أستراليّة لتستولي على وادي أبو زهر، على بعد ميلين إلى الشمال من صيدا، ثمّ سقطت درب السيم، والميّة وميّة، وانفتحت الطريق إلى الصالحيّة، فسبلين. وفي اليوم الرابع عشر من المعرك سقطت كفرحونة، فوقفت النساء في الشوارع يرحّبن بالجنود ويزغردن(37).
ويذكر الباحث ستيفن لونغريغ Steven Longriggأنّ القوّات الأستراليّة، المشاركة في الجيش البريطانيّ، كانت تحتلّ الموقع تلو الآخر، حتّى هدّدت الدامور على بعد عشرة كيلومترات إلى الغرب من بيروت(38).
والواقع أنّ نهر الدامور كان عائقاً آخر، أمام تقدّم القوّات، فقرّر لافاراك الالتفاف من جهتي الشرق والشمال على الجسر، فانقضّ الجنود الأستراليّون على برجا، والسعديّات، وكان الجنود الفيشيّون على تلّة 394، فوق الدامور، فتسلّلت إليهم مجموعة من الجنود الأستراليّين، وأسرت خمسة منهم، واحتلّت التلّة، ثمّ التفّت على الدامور من جهة الشمال، وهذا الالتفاف عجّل في سقوط الدامور، ودير الناعمة، في التاسع من تموز، بعد قتال استمرّ 36 ساعة، كان الأعنف خلال الحملة على لبنان… ثمّ تبع الجنود الأستراليّون القوّات المنسحبة إلى خلده، تحت غطاء من القصف المدفعيّ الحليف.
وقام الجنود الأستراليّون بنحت لوحة تذكاريّة، في تموز 1941، قرب الخطّ الحديديّ في الدامور، لتمجيد مشاركتهم في معركة تحرير لبنان وسوريا.
وبعد سقوط الدامور وخلده، أصبحت بيروت على مرمى حجر من القوّات الحليفة. وقد قصفت الطائرات الحليفة منطقة المرفأ، فطلب الرئيس اللبنانيّ ألفرد نقّاش إعلان بيروت مدينة مفتوحة، لكنّ دانتز أصرّ على مواصلة الحرب. وبعد وقت قصير اكتشف أنّ ميزان القوى لم يعد لصالحه، فطلب الفيشيّون توقيع اتفاقيّة لوقف إطلاق النار في ليل 12 تموز. ودخل الجنود الحلفاء مدينة بيروت في 15 تمّوز، وأقاموا عرضاً عسكريّاً في ساحة الشهداء، احتفاء بالانتصار.
واستغرقت معركة تحرير لبنان من القوّات الفيشيّة 34 يوماً، وكلّفت الجيش الأستراليّ 416 قتيلاً، و1136 جريحاً. وكان أول ضحيّة أستراليّ في هذه الحملة الجندي نيقولاس كوري، وقد قتل في 20 حزيران
(39).
وأقام الأستراليّون عدّة معسكرات في لبنان، منها واحد في عين الرمّانة، وكان مقرّاً لقيادة القوّات الأستراليّة، وآخر في طرابلس، وثالث في دير مار انطونيوس – الجديدة – على الطريق بين زغرتا وإهدن. ويخبر العجائز ممّن يتذكّرون تلك الحقبة أنّ الجنود الأستراليّين كانوا ودودين، ويقدّمون الأطعمة إلى السكّان الفقراء، وقد اعتاد بعض أهل الشمال، من قرى بان، وكفرصغاب، وكفرياشيت، وبشرّي وزغرتا على العمل في المعسكرات الأستراليّة، في صناعة الخيَم، وحفر المتاريس للدبّابات، وغسيل الثياب مقابل النقود والطعام.
ويذكر جورج خليل، من قرية كفرحلدا، في قضاء البترون أنّه عمل مع الجيش الأستراليّ في طرابلس، وكان يمارس الرياضة مع الجنود، وأقنعه أحدهم بالهجرة مع أسرته إلى أستراليا(40).
وكان الجنود الأستراليّون يزورون البيوت، حاملين علب اللحم والمشروبات، ويتناولون الطعام مع السكّان. كما أنّ بعضهم كانوا من أصول لبنانيّة، وكان لديهم أقارب في القرى.
وافتتح الجيش الأستراليّ مدرسة للتزلّج في منطقة الأرز بشمال لبنان، في 15-12-1941، دعيت باسم:
“1Corps Sky School”، وكان الغرض من إنشاء تلك المدرسة تدريب 160 جنديّاً أستراليّاً من كلّ فرقة في الشرق الأوسط على التزلج والقتال وسط الثلوج. وتحتفظ وزارة الدفاع الأستراليّة بصورة تذكاريّة لستّة جنود أستراليّين، وهم يستعدّون للتزلّج أمام تلك المدرسة. وتحوّلت هذه المدرسة فيما بعد إلى مركز جبليّ للجيش اللبنانيّ.

خاتمة:
هكذا يتبدّى لنا بوضوح أنّ أستراليا قد لعبت دوراً أساسيّاً، وبالأخصّ على المستوى العسكريّ، في تحرير لبنان خلال الحربين العالميّتين: الأولى والثانية. وقد ضاعت معالم هذا الدور، وراء غشاوة من التحالف العرقيّ، والسياسيّ، والاستراتيجيّ بين أستراليا وبريطانيا.
ولم يلاحظ الكثير من المؤرّخين أنّ القوّات الاستراليّة كانت تشكّل العمود الفقريّ للجيش البريطانيّ، ولعلّها قامت بأكثر العمليّات الحربيّة خطورة في لبنان، وتكبّدت خسائر فادحة في الأرواح؛ ففي بيروت مثلاً، توجد مقبرة خاصّة بشهداء الحرب، وفيها قسم خاصّ بالجنود البريطانيّين الذين قتلوا في الحرب العالميّة الأولى، إلى جانب رفاقهم الأستراليّين. ويبلغ عدد الشهداء الأستراليّين المدفونين في مقبرة بيروت 373 شهيداً. وفي مدينة صيدا توجد مقبرة أخرى، دفن فيها 34 جنديّاً استراليّاً. أمّا في مقبرة شهداء الحرب بمدينة طرابلس (الميناء)، فقد دفن 20 جنديّاً أستراليّاً(41).
ويعود تاريخ مقبرة طرابلس إلى عام 1895، عندما اصطدمت السفينة الحربيّة HMS Victoria بالسفينة HMS Camperdown في البحر المتوسّط، فنقل ستّة من البحّارة القتلى، ودفنوا في المقبرة. وفي الحرب العالميّة الأولى، لم يدفن أيّ أستراليّ هناك. أمّا في الحرب العالميّة الثانية، فقد ضمّت المقبرة رفات 100 جنديّ حليف من المشاة والطيّارين.
وعلى أيّة حال، فإنَّ من الواجب الاعتراف بتضحيات “الحفّارين” الأستراليّين، في عمليّات الحرب والسلام، فإلى هؤلاء كانت توكل مهمّات عسكريّة صعبة، ولا يزال الشعب اللبنانيّ يقدِّرُ بسالتهم في القتال، وتصميمهم على الانتصار في المعركة، ولا تزال ذكرياتهم تنعش خواطر اللبنانيّين، وتقوّي أواصر العلاقة الروحيّة القائمة بين وطن الأرز: لبنان، ووطن المحبّة والأبواب المفتوحة: أستراليا.
المصادر والمراجع

(1) Joan Beaumont, Australia’s War 1939-1945, Allen & Unwin, Sydney, 1996, P. 3
(2) كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث، دار النهار للنشر، بيروت، 1991، ص204.
(3) محمود خليل صعب، قصص ومشاهد من جبل لبنان، 1999، ص82.
(4) علي عبد المنعم شعيب، تاريخ لبنان من الاحتلال إلى الجلاء 1918- 1946، دار الفارابي، بيروت، 1994، ص 162-163.
(5) يوسف الحكيم، سورية والعهد الفيصليّ، دار النهار للنشر، 1986، ص47.
(6)Alan Palmer, Victory 1918, Weidenfeld & Nicholson, London, 1998, P. 232.
(7)Marjorie Barnard, A History of Australia, Angus and Robertson, Sydney, 1967, P. 489.
(8)Phoebe Vincent, My Darling Mick: The life of Granville Ryrie, 1865-1937, National Library of Australia, Canberra, 1997, P.188.
(9)Alan Palmer, Victory 1918, Weidenfeld & Nicholson, London, 1998, P. 244.
(10) Charles Bean, Official History of Australia in the War of 1914-1918, Vol. 7, University of Queensland Press, Brisbane, 1941, P. 749.
(11) يوسف الحكيم، سورية والعهد الفيصليّ، ص47.
(12) Meir Zamir, Faisal and Lebanon Question 1918- 1920, in: Middle Eastern Studies. Vol. 27, N.3, July 1991, P. 405.
(13) Charles Bean, Official History of Australia in the War of 1914-1918, Vol. 7, University of Queensland Press, Brisbane, 1941, P.776
(14) Ibid, P.776-777.
(15) محمد كامل بابا، طرابلس في التاريخ، جروس برس، طرابلس، 1995، ص298.
(16) Charles Bean, Official History of Australia in the War 0f 1914-1918, Vol. 7, University of Queensland Press, Brisbane, 1941, P. 738.
(17)Frederick Morley Cutlack, The Australian Flying Corps in the Western and Eastern Theatres of War 1914-1918, Angus and Robertson, Sydney, 1923, P. 169.
(18) جورج فغالي، تاريخ جيش المشرق في لبنان، منشورات الجامعة اللبنانيّة، بيروت، 1997، ص 82.
(19) سليمان تقيّ الدين، غسّان الغصيني وآخرون، بعقلين في التاريخ، دار النهار، بيروت، 2008، ص 96.
(20) محمود خليل صعب، قصص ومشاهد من جبل لبنان، 1999، ص84
(21) م.ن، ص 86-87.
(22) ينظر سامي ريحانا، تاريخ الجيش اللبنانيّ المعاصر، ج1، دار نوبليس، بيروت، 1996،
ص 92.
(23) يوسف الحكيم، سورية والعهد الفيصلي، ص114.
(24) Phoebe Vincent, My Darling Mick: The life of Granville Ryrie, 1865-1937, National Library of Australia, Canberra, 1997, P.190
(25) Charles Bean, Official History of Australia in the War 0f 1914-1918, Vol. 7, University of Queensland Press, Brisbane, 1941, P.780.
(26) Ibid, PP.788-789-790.
(27) جميل الدويهي، من ذكريات مشاركة القوّات الأستراليّة في حرب لبنان وسوريا أثناء الحرب العالميّة الأولى، جريدة التلغراف الأستراليّة، العدد السنويّ، 2000، ص46.
(28) سامي ريحانا، تاريخ الجيش اللبناني المعاصر 1916-1946، ج4، نوبليس، بيروت، ص670
(29)Rachaya Al Foukhar-History and Tales http: //www.rashaya-al-foukhar.com
(30)John Laffin & Mike Chappel, The Australians at War 1899-1975,Osprey Publishing, Oxford, 2002, P 19.
(31) Australia’s War 1939-1945: Syria and Lebanon, June 1941, P.1
www://ww2australia.gov.au
(32) Mark Johnston, The Australian Army in world War 2, Osprey Publishing, Westminster, 2007, P19.
(33) التلغراف العدد السنويّ، ص 46
(34) م. ن
(35) م. ن
(36) سامي ريحانا، تاريخ الجيش اللبناني المعاصر 1916-1946ن الجزء 4، ص 675-676
(37)Gaving Long, Australia in the War 1939-1945, Vol.2, Australian War Memorial Publishing, 1952, P.389
(38) Stephen Hemsley Longrigg, Syria and Lebanon under French Mandate, Octagon Books, New York, 1972, P.313-314.
(39) Australian Lebanese Historical Society, Newsletter: The Australian Campaign in Lebanon of World War 2, Winter 2005, P.1 www.alhs.org.au.
(40)Ibid.
(41)www.australianwargraves.org/countries/Lebanese.php

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى