ثقافة وحوار

هل الدين حاجة إنسانية؟

يكتسب التدين أهميته من كونه فطرة فطر الله عباده عليها ، وركزها في نفوسهم ، فما من أحد من العالم إلا ويجد ذلك من نفسه ،بحيث لا يستطيع العيش بدونه إلا مع حرج وعذاب ، وحاجة الإنسان إلى التدين أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب . ويكتسب التدين أهميته أيضا بالنظر إلى آثاره الإيجابية، على الفرد والجماعة على حد سواء .
وقد تضافرت الدلائل الشرعية والحسية على أن التدين فطرة فطر الله الناس
التدين جِبِلَّةٌ إنسانية خُلقت مع الإنسان ووجدت بوجوده ، إلا أن تنشئة الإنسان وتربيته – إن كانت على خلاف منهج الله وشرعه – تؤثر سلبا على جبلة التدين وتنحرف بها عن مسارها الصحيح .
أما الشواهد الحسية على ذلك ، فنلمسها من خلال :
١- حاجة الإنسان إلى قوانين وأخلاق تنظم حياته ، وتضبط سلوكه ، ليتميز بذلك عن سائر الحيوان
٢- ان الناس إما أن يعيشوا من غير دين ينظم حياتهم ، ويضبط سلوكهم، وإما أن يتخذوا لهم من يشرّع لهم دينا
٣- وإما أن يكونوا على الدين الحق الذي جاءهم عبر أنبياء الله ، فيكونوا بذلك على وفاق مع فطرتهم التي فطروا عليها ، فتنتظم أمور حياتهم خير انتظام
فإن اختاروا الأول عاشوا في بهيمية نكراء يأكل الضعيف منهم القوي ، وكان اختلافهم عن سائر الحيوان بالشكل والصورة فحسب ، وإن اختاروا الثاني فقد اختاروا العبودية لطائفة من البشر ، تتسلط عليهم، وتذيقهم من ظلمها سوء العذاب ، فلم يبق إلا أن يحتكموا إلى الدين الحق ليأخذوا منه شرائعهم ، ويبين لهم ما يحل لهم فيأتوه ، وما يحرم عليهم فيجتنبوه ، وهنا تكمن قمة السعادة ، ولا سعادة حقيقية للإنسان – أي إنسان – إلا باتباع الدين الذي ارتضاه الله لعباده.
ومن الأمور الحسية التي تدل على أن التدين ضرورة إنسانية ، ما يحسه الإنسان في نفسه من ضعف أمام بعض مظاهر الكون ، كالرياح العاتية ، والبحار الهائجة ، والزلازل ، والبراكين ، فإن الإنسان مهما عظمت قوته ، وعظم ذكاؤه ، فإنه يبقى ضعيفا أمام هذه الظواهر التي ابتلى الله بها عباده ، فيعلم الإنسان من نفسه أن لا قدرة له على دفعها ، أو الاحتراز منها ، فمن هنا عظمت حاجة الإنسان إلى إله يلجأ إليه ويتوكل عليه . وقد دأب البشر منذ القدم على تلمس الآلهة لتحميهم من هذه الظواهر ولتدفع عنهم شرها ، فعبد قوم الشمس ظنا منهم أنها الأقوى ، وعبد آخرون القمر، ومنهم من أقاموا عليهم آلهة مثل اله أيل واله بعل وعشتروت وزيفس
وهكذا تنقل الإنسان بين مظاهر الطبيعة يعبد بعضها خوفا من البعض الآخر . ولعل مما يدل على هذه الحقيقة – حقيقة حاجة النفس البشرية إلى إله يحميها ويدفع الشر عنها
وينضم إلى تلك الدلائل الشرعية والحسية ، في تقرير هذه القضية ما نشهده واقعاً من الحياة التعيسة التي يحياها الملحدون ، فهم وإن تنعموا بملذات الدنيا ونعيمها إلا أنهم فقدوا أغلى ما فيها وهو الإيمان بالله عز وجل ، فهم يتقلبون في ظلمات الشك وبحار التيه النفسي ، ما يدفع بالكثيرين منهم إلى التخلص من حياتهم – رغم بذخ عيشهم – وذلك بسبب ما يعيشونه من خواء روحي مرير ، يجعل من الحياة – مهما توفرت لهم فيها سبل الراحة – أمرا لا يطاق
وبهذا يتضح لك – مدى التضافر والتآزر بين الأدلة الشرعية والنفسية والحسية على أهمية التدين في حياة الإنسان ، والأمر إذا عظم شأنه، كثرت أدلته ، وظهرت حججه ، واستعصت أن يدفعها دافع ، أو ينازع فيها منازع.
‎ومن الدلائل الواضحة على أن البشر ما أنفكوا عن رسل يدعونهم إلى الله، ويشرعون لهم الشرائع التي يتعبدون الله بها، كلما أندرست معالم التوحيد، وانطمست أنواره في نفوسهم. وذلك يعني أن التجمعات البشرية لم تخل من دين تدين به وتضبط كثيراً من نواحي حياتها وفْقَه، وهذا ما أكده أيضاً علم الآثار والبحوث الاجتماعية في التجمعات البشرية، إذ يصرح كثير من ذوي هذه الاختصاصات: (أن الجماعات البشرية القديمة والحديثة، المتحضرة وغير المتحضرة كان لها دين تدين به.
‎قال هنرى برجسون: (لقد وجدت وتوجد جماعات إنسانية من غيرعلوم وفنون وفلسفات، ولكن لم توجد جماعة بغير ديانة ).
‎فهذه الدلالات المؤكدة، والحقيقة التي لا تقبل الجدل في أن النزعة الدينية متعمقة في الإنسان ومغروزة فيه، تجعل الباحث والناظر في ذلك يتساءل عن الباعث على هذا التدين ما هو ؟ مع أن الدين ليس من الماديات، ولا من الشهوات التي تتعلق بها النفوس، بل الدين له تبعات ولوازم تجعل الإنسان في كثير من الأحيان يبذل دمه من أجله، فضلا عن ماله ووقته وعواطفه، ويتحكم الدين في كثير من تصرفات الإنسان وعلاقاته، فلهذا كثر في بيان الباعث على التدين القيل والقال، والاستنتاجات، والتخمينات.
‎وإليك بعض هذه الأقوال كلها:
‎قال بعضهم: إن الدافع إلى التدين الخوف من الطبيعة حوله بما فيها من برق، ورعد، وزلازل، وبراكين، وحيوانات متوحشة، جعلت الإنسان في الأزمان القديمة- وهو الضعيف الذي لا حول له ولا طول مع هذه الأحوال المتغيرة حوله- يبحث عن قوة غيبية لها سيطرة وتأثير في هذه الطبيعة حوله، ولها قدرة على حمايته وحفظه، فأله وعبد ما يرى أنه أقوى وأقدر على حمايته من المخلوقات التي حوله كالشمس والقمر والبحر ونحو ذلك.
‎وقال بعضهم وهو (ماكس موللر): (إن العقل هو الباعث على التدين، وذلك أن العقل ميزة الإنسان عن الحيوان، وهو باعث على النظر والتفكر في هذه المخلوقات، والإعجاب بها، وتعظيمها، ومن هنا أخذ العقل يفكر فيما وراء الطبيعة، وأداه عقله مع اللغة المستخدمة في الحديث عن الجمادات إلى صبغها بصبغة الأحياء ذوات الأرواح، مما جعله يتعبد لها ويتخذها إلها(.
‎وهناك قول ثالث في الباعث قال به )دوركايم( الفرنسي، وهو: أن الحاجة الاجتماعية هي الباعث على التدين، وذلك أن المجتمعات البشرية تحتاج إلى نظم وقوانين تحفظ الحقوق وتصون الحرمات، ويؤدي كل إنسان واجبه بمراقبة داخلية، مما جعل بعض الأفذاذ وذوي القيادة يتولد في أذهانهم الدين، ويبثونه في جماعتهم، فتقبله الجماعة لحاجتها لذلك.
‎هذه الأقوال يظهر منها واضحاً ادعاء أن الدين مصدره الإنسان، وأن باعثه أمر من الأمور المتعلقة بالطبيعة حول الإنسان، أو دوافع داخلية في الإنسان.
‎ولا تحتاج هذه الأقوال إلى كثير عناء في إبطالها وردها؛ إذ إن هذه البواعث المذكورة كثيراً ما تكون غير موجودة، ومع ذلك يكون التدين ظاهراً واضحاً يصدم دعاة الإلحاد ويهدم تخرصاتهم. ولا يعدو ما ذكر هنا من باعث التدين أن يكون تخرصا وفرضاً باطلاً؛ إذ إن الحديث عن باعث التدين يحتاج إلى سبر أغوار النفس البشرية، ودراسة تاريخية متعمقة، تشمل الإنسان الأول، وتسير معه سيراً متأنياً، كاشفة عن مشاعره وأحاسيسه وتقلباتها حسب الظروف والأحوال التي تحيط به؛ إذ إن الدين له أوقات يظهر بها ويتضح جليًّا في حياة الإنسان، وهي أوقات الأزمات والمخاوف التي يقع فيها الإنسان، كما أن له أوقاتاً يكمن فيها ولا يظهر، وهي أوقات الرخاء والغنى، إذ يقع الإنسان فيها فريسة سهلة للغفلة والبعد عن الدين. كما أن الباحث يجب أن يكون في حال بحثه خاليا من المؤثرات البيئية والدينية والثقافية، وذلك من أجل أن يكون حكمه على الظواهر التي يقع عليها سليما من المؤثرات الخارجية، وأنَّى للباحث أن يتخلص من ذلك.
‎فهذه الأمور تجعل الوصول إلى باعث التدين الحقيقي من الصعوبة والعسر بما لا يتمكن منه الإنسان. ونحن- الديانات السماوية- نعتقد أن الباعث على التدين: هو الفطرة، ونعتمد في ذلك على الوحي الإلهي والنور الرباني

جوزيف سكر
رئيس المؤسسة الاجتماعية لحوار الحضارات – سدني

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى